محمد الحمامصي يكتب:

إعادة الاعتبار ليعقوب صنوع رائد المسرح المصري

تنعقد هذه الأيام مهرجانات مسرحية عربية هامة أبرزها مهرجانا أيام قرطاج المسرحية بتونس ومهرجان الكويت المسرحي، وكسائر التظاهرات المسرحية العربية هناك فقرات مخصصة لتكريم الرواد، اعترافا بأدوارهم الهامة. لكنْ هناك رواد آخرون يتعرضون لمظالم حقيقية مثلما حدث مع المصري يعقوب صنوع.

اتخذ بعض باحثي المسرح من يهودية يعقوب صنوع ذريعة للعبث بريادة المسرح المصري من خلال إقصاء تاريخه باعتباره رائد هذا المسرح ومؤسسه عام 1870، وتحديد انطلاقة المسرح المصري بالعام 1905، ومن ثم خصم 35 عاما من عمر ورصيد المسرح المصري.

الإنكار وصل بأحدهم إلى تأليف كتاب بعنوان “محاكمة مسرح يعقوب صنوع” يلفت فيه إلى احتمالية أن يكون صنوع عميلا للصهيونية وأن الخلية الصهيونية هي التي أدخلت اسمه في مجتمع المسرح العربي".

ودفع هذا أستاذة علوم المسرح نجوى عانوس، أحد أبرز المشتغلين على تراث المسرح المصري عامة ومسرح يعقوب صنوع منذ انطلاق دراساتها الأكاديمية على يد الدكتور عزالدين إسماعيل عام 1977، إلى أن تضع حدا نهائيا لهذه الادعاءات التي اعتمد صاحبها ومروجها على منهج المغالطات، ومن ثم إعادة الاعتبار لصنوع وريادة المسرح المصري في كتابها الجديد “يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة.. دراسة إبستمولوجية”.

محاكمة جائرة
يقف كتاب “يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة” لنجوى عانوس، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، على جزء هام من تاريخ المسرح المصري بمنهج نقدي لكشف الأخطاء ومحاولة تصحيحها، وقد رصدت عانوس في جانب من مقدمتها للكتاب أسباب تصديها لما ورد من مغالطات وأخطاء بحق يعقوب صنوع وريادة المسرح، موضحة تفاصيل الدافع الحقيقي وراء كتابها الضخم، قائلة “إن ريادة يعقوب صنوع للمسرح المصري من 1870 من الثوابت التي اتفق عليها مؤرخو المسرح، وفي تلك الفترة التاريخية وعندما ثار ذلك الجدل حول إنكار صنوع وريادته ترفعت عن الولوج في هذا العبث المعرفي الذي اعتبرته هدرا للجهد الإنساني والمعرفي لإثبات ما هو حقيقي، إلا أن المغالطات تضخمت وانتشرت، إذ فاجأني كتاب ‘محاكمة مسرح يعقوب صنوع‘ للدكتور سيد علي ويشير العنوان بداية إلى فرض الأحكام المسبقة فهو يحاكم صنوع ويوحي للمتلقي بأنه متهم”.

هناك مغالطات سفسطائية نسبت ريادة المسرح الحديث لغير صنوع وجعلت يهوديته سببا لإقصاء تاريخه

وأضافت “يستهل صاحب المحاكمة كتابه بتوضيح إعجابه بأحد طلابه ويصفه بأحد النابهين، الذي طرح أسئلة وهي ‘يوجد احتمال بأن يعقوب صنوع عميل للصهيونية، وأن الخلية الصهيونية هي التي أدخلته إلى مجتمع المسرح العربي‘، فلماذا لا يكون هناك تعاون مسبق بينكم وبين الحكومة المصرية بحيث تثبتوا للعالم بأن رائد المسرح المصري هو مسلم مصري؟”

وتابعت “الشيء الغريب في الأمر هو كمية الأدلة الضخمة التي استطاع سيد علي الحصول عليها لذلك ذكرت أن الحكومة المصرية لها دخل في الموضوع وإلا كيف استطاع الحصول على تلك المعلومات المهمة بهذه السرعة القياسية؟ إن تمهيد المحاكمة المزعومة بمقولة هذا الطالب للتأثير على المتلقي فيقول إن الخلية الصهيونية هي التي أدخلت يعقوب صنوع في المسرح ليمهد للقارئ نتيجة خاطئة وهي أن ‘يعقوب صنوع صهيوني يحمل جرم إسرائيل في فلسطين‘ ومن ثم يكرهه المتلقي ويرفضه ابتداء. إنها حالة من التلاعب الخطابي على لسان أحد طلابه ليضلل المتلقي ويصادر على العقلية النقدية عند القارئ”.

هكذا أعلنت عانوس ترفعها عن الرد على مغالطات التأريخ المسرحي والتي انتشرت على مدار عشرين عاما تقريبا إيمانا منها بأن البحث الجاد سيسقط كل تلك الأخطاء التي اعتمدت منهج المغالطات السفسطائية والتي أرادت أن تعتمد ريادة للمسرح الحديث لغير صنوع وروجت لها كتابات اتخذت من يهودية صنوع سببا لإقصاء تاريخه وليس من البحث والتدقيق والتمحيص فأصبح غير موجود تارة ثم له وجود باهت تارة أخرى، صنوع ذلك العبقري الذي قد نختلف معه لكن لا يمكن أن نختلف على ريادته للصحافة الهزلية والكاريكاتير والمسرح والصحف المصورة واللعبات التياترية.

مسار البحث
استطاعت عانوس أن تبحث في دوريات وادي النيل وفي مكتبة أتاتورك وغيرهما من المصادر لدحض تلك المغالطات المزعومة. وقد بدأت دراستها بالبحث في دوريات الفترة 1870 ـ 1872 وأهمها “وادي النيل” و”الجوائب” و”إيجيبت”، إلا أنها لم تجد “وادي النيل” في دار الكتب المصرية فمعظمها قد سرق والبعض الآخر قد تم دفنه في مقبرة الترميم. أما دورية “الجوائب” فقد عثر فيها ابنها نبيل بهجت على خبر يفيد بريادة جيمس سنوا أو يعقوب صنوع للمسرح، مما شجعها على البحث في هذه الدورية ولكنها لم تجد في دار الكتب المصرية إلا أعدادا متفرقة منها، وبالرجوع إلى كتاب فيليب دي طرازي “تاريخ الصحافة” وجدت أن دورية “الجوائب” تركية وانتشرت في مصر الخاضعة للسيطرة العثمانية.. سافرت إلى إسطنبول، لتكون تركيا هي البلد الثالث الذي سافرت إليه بحثا عن صنوع بعد بيروت وباريس.

ثم قدمت عانوس من خلال التمهيد عددا من الأخبار الصحافية المنشورة وقت عرض المسرحيات، والتي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على وجود مسرح يعقوب صنوع وأثره الواضح في المجتمع وتشرح تفاصيل تجربته الفنية وأن مسرح صنوع هو شكل للتمدين الذي يرنو إليه الخديوي. إن أهم ما طرحته الباحثة بخلاف الإعلانات المسرحية هو توضحيها للأسماء المختلفة والهويات التي طرح يعقوب صنوع من خلالها نفسه، وهي ما تسبب في الكثير من اللبس، وهي “ميسو جيمس، الخواجة جيمس سنوا، الخواجه جيمس، مستر جيمس، جيمس سنوا المصري مؤسس التياترات العربية، مجلة أبونظارة أو أبونضارة، وكتب على مذكراته بقلم الشيخ “جيمس سنوا ـ أبونضارة – شاعر الملوك”.


وأكدت أن ماسونية يعقوب صنوع هي ما دفعه إلى تفريغ اسمه من الدلالة الدينية، فيعقوب دلالته عربية مسلمة، لذا اختار لنفسه جيمس ليفرغ اسمه من الدلالة الدينية، ويكون مدعاة لطلب الحماية من الدول الغربية. وفندت المغالطات التي تم الترويج لها حول كتابات صنوع.

وأنهت عانوس تمهيدها قائلة “أكدت في هذا التمهيد على ريادة يعقوب للمسرح من 1872-1870 وأقصد هنا بهذا التاريخ العرض على خشبة المسرح واستمر صنوع يكتب مسرحياته إلى سنة 1910 إذ كتب بعد 1872 ‘موليير مصر‘ و‘ما يقاسيه الزوج الخائن‘، وكتب ثلاثين لعبة تياترية منشورة في المجلة وهي عبارة عن دراما صحفية أو مسرحيات صحفية مصورة رسم فيها رؤيته الإخراجية رسما دقيقا يجعل المتلقي يشاهد العرض بالصور وإن لم يشاهده على خشبة المسرح”.

جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان “عالم يعقوب الفكري” حيث تقف عانوس على ماسونية يعقوب صنوع وأثر ووعي الحركة الماسونية في المجتمع آنذاك وعلاقة صنوع بالمصلح الاجتماعي الثوري جمال الدين الأفغاني الذي كان عضوا بمحل كوكب الشرق الماسوني، وتنهي الفصل بمقولة عبدالوهاب المسيري “إن يعقوب صنوع عبقري يهودي وثمرة رائعة للمجتمع المصري العربي الإسلامي بتركيبته وعراقته وتسامحه، ومع هذا لا بد أن نشير إلى أن البعد اليهودي قد يفسر حركية يعقوب صنوع الزائدة وقدراته الفائقة على التحرك داخل تشكيلات حضارية مختلفة واستيعابها وتعلمها العديد من اللغات، ومع هذا يظل انتماؤه إلى مجتمعه المصري العربي المسلم هو العنصر الأكثر تفسيرية”.

وجاء الفصل الثاني بعنوان “عالم يعقوب الفكري في لعباته التياترية”وتقف فيه الباحثة على دراسة المسرحيات المصورة، اللعبات التياترية، كشكل لإبداع جديد في المسرح العربي، كما تقف على أثر التراث الشعبي في تشكيل تلك اللعبات خاصة “القرادتي ـ حكم قراقوش ـ الواد المرق أبوشادوف”. كذلك تقدم للمسرحيات المصورة عنده ووعيه الإخراجي الذي طرحه من خلال الرسم المصاحب.

وقدمت عانوس في القسم الثاني من الكتاب المسرحيات المجهولة ليعقوب صنوع “جيمس وما يقاسيه” وعدد من اللعبات التياتيرية منها “القرادتي ـ حكم قراقوش ـ بالوظة أغا وعدالته ـ الكبانية لعبة تياتيرية ـ الدخاخني ـ زمزم المسكينة ـ جرسة إسماعيل”، ثم قدمت المسرحيات المصورة “سلطان الكنوزـ وملعوب الحدق ـ ومحاورة بين سي مرجان أغا والشيخ منصور” وغيرها.