"حين تحلّ الجزرة السياسية محلّ الحلول"..
خيارات الحل في جنوب اليمن.. قراءة في المقاربة السعودية وحدودها
تتناول هذه القراءة مقاربة سعودية للتطورات في جنوب اليمن، وتطرح رؤية نقدية لمسار التعامل السياسي مع القضية الجنوبية، مع التركيز على حضرموت والمهرة، وحدود الحلول المطروحة، وإمكانات الانتقال من إدارة الواقع القائم إلى مسار سياسي أكثر وضوحًا واستقرارًا يخدم مصالح جميع الأطراف.
أسئلة الحل المؤجّل وتعقيدات المقاربة الإقليمية - صحيفة العرب اللندنية
أصدرت وزارة الخارجية السعودية بيانًا بشأن التطورات في جنوب اليمن، حمل في لغته رسائل سياسية تتجاوز توصيف الحدث إلى إعادة ضبط مسار التعاطي مع القضية الجنوبية. ويأتي هذا البيان في لحظة حساسة، تطرح تساؤلات حول طبيعة المقاربة المعتمدة، وحدود ما بين إدارة الواقع القائم وفتح أفق لحلول سياسية أكثر وضوحًا واستدامة.
إن أي قراءة موضوعية وسريعة للبيان السعودي بشأن التطورات في الجنوب (جنوب اليمن) تتطلب فهما للنفسية السياسية السعودية، ومحاولة إدراك أسلوب التذاكي السياسي واستخدام ما يمكن تسميته بـ«الجزرة السياسية» في التعامل مع شعب خبر ثلاثة عقود من المواقف الدولية والإقليمية المتذبذبة.
فما تطرحه الرياض وحلفاؤها في شمال اليمن بوصفه حلا عادلا، يمس في جوهره القضية الوطنية الجنوبية ويصيبها بشكل مميت؛ إذ لا يعترف بنتائج حرب صيف عام 1994م، ولا بحقيقة الاحتلال العسكري، بل ينظر إلى الجنوب بوصفه قضية مظلومية حقوقية. وهذه ليست نتيجة رؤية سعودية خالصة، بقدر ما هي رؤية يمنية صِرفة يتعاطى معها المسؤولون السعوديون على أنها "فكرة" قابلة للإدارة.
المسؤولون السعوديون يعيشون حالة من الغياب السياسي، وتغييبا حقيقيا حتى في كيفية إدارة أزمة اليمن. فإذا نظرنا إلى الإدارة السعودية للأزمة منذ عام 2011م، تاريخ الانقلاب على نظام صالح، يتضح أن إدارة الأزمة كانت كارثية النتائج؛ بدليل أن الأذرع الإيرانية تسيطر اليوم على معظم شمال اليمن، باستثناء مركز محافظة مأرب وأجزاء محدودة من تعز المحررة. غير أن حتى هذه الأجزاء تحولت إلى مسرح للفوضى والعنف، وأسهمت في خلق بيئة رخوة سمحت بتغلغل الجماعات المتطرفة؛ فتعز تعيش فوضى مسلحة، ومأرب تحولت إلى بيئة أمنية هشة.
البيان السعودي يسمّي بشكل واضح المجلس الانتقالي الجنوبي، ويصف تحركاته بأنها “أحادية، غير منسقة، ومسببة لتصعيد غير مبرر”. وهنا أتوقف تماما عند هذا الموقف المعلن للحديث عن مواقف مشابهة وغير معلنة؛ فعلى سبيل المثال، خلال عملية “سهام الشرق” في أبين، كان الموقف السعودي معارضا لتوقيت العملية، واعتُبرت آنذاك “تحركا أحاديا”؛ وفق تسريبات (خاصة).
ويشي البيان بأن الرياض تتعامل مع ما جرى بوصفه خرقا لسقف مسموح به سابقا، لا كمجرد اختلاف تكتيكي، كما أن وصف “التصعيد غير المبرر” يهدف إلى نزع أي غطاء سياسي أو أمني عن الخطوة، داخليا وخارجيا.
البيان السعودي، الصادر عن وزارة الخارجية، تجاهل تماما تراكمات أكثر من عقد من الأزمات في وادي وصحراء حضرموت، بدءا من فراغ السلطة في حضرموت والمهرة، مرورا بالإخفاقات الأمنية لقوات المنطقة العسكرية الأولى، وصولا إلى حالة الغليان الشعبي والقبلي. فقد تعاملت الرياض مع الأزمة في حضرموت من منظور إدارة الأزمة لا حلّها، عبر ترحيل الإشكالات الداخلية وربطها بحل أشمل تكون جماعة الحوثي جزءا منه، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا. بل يرى المجلس الانتقالي الجنوبي أن أي حلول لا يكون سقفها الأعلى إقامة دولة جنوبية أو حكم ذاتي جنوبي دون تدخلات يمنية، تبقى حلولا منقوصة. أما ورقة المجلس في هذا السياق، فهي المساحة المحررة من باب المندب حتى آخر نقطة في المهرة، وهي أراضٍ حررتها القوات الجنوبية وحاضنها السياسي المجلس الانتقالي الجنوبي.
وربما أصبح من الممكن اليوم التأكيد على نقطة في غاية الأهمية، وهي أن تأمين وادي حضرموت والمهرة لا يمكن التراجع عنه، لأن التراجع عنه يمثل كارثة سياسية واستراتيجية حقيقية يدركها المجلس الانتقالي الجنوبي. ولا يمكن مقارنة هذا التطور بتجربة “الإدارة الذاتية” التي جرى التراجع عنها ببيان لحظي؛ فهذه خطوة استراتيجية تبعتها خطوات مؤسسية أكبر، تمثلت في إعلان وزارات ومؤسسات محلية تأييدها لخطوات المجلس الانتقالي، ولم يتبقَّ سوى استكمال الترتيبات في حضرموت والمهرة، وهي إجراءات ستُنفذ في توقيتها.
غفل البيان السعودي عن ذكر كثير من التطورات التي سبقت إزاحة المنطقة العسكرية الأولى، فلم يناقش الأسباب، بل ركّز على النتائج فقط، وهو ما يعني أن السعودية لا ترغب في فتح نقاش حول جذور الأزمة، بقدر ما تسعى إلى إيقاف مفاعيلها فورا.
وضع البيان مرجعية سياسية لكل تحرك في اليمن، متمثلة في مجلس القيادة الرئاسي بشخص رئيسه رشاد العليمي، بما يعكس رؤية ترى أنه حتى وإن كان المجلس الانتقالي شريكا، فهو ليس صاحب قرار سيادي مستقل. وهذا الطرح ينطوي على تجاهل لوجود ثلاثة إلى أربعة أعضاء في مجلس القيادة كانوا جزءا أصيلا من قرار التحول في حضرموت، كما يتجاهل ممثل المحافظة في المجلس، اللواء فرج سالمين البحسني، ويغض الطرف عن إرسال العليمي إلى المكلا بشعارات ووعود “الإدارة الذاتية”، في حين كان الأجدر إرساله إلى تعز التي تعاني من هشاشة أمنية واضحة.
اللغة الأخطر في البيان تتمثل في المطالب التي أوردها: انسحاب القوات، تسليم المعسكرات، وتمكين قوات درع الوطن؛ إذ لا تطرح هذه المطالب تسوية أو إدارة مشتركة، بل عودة كاملة إلى ما قبل التحرك وإلغاء الوقائع الجديدة على الأرض. وقد يطول الشرح هنا، لكن تجدر الإشارة إلى واقعة مهمة في عام 2013م، وأثناء انعقاد الجمعية الوطنية في حضرموت، حين لم تعارض قيادة المجلس الانتقالي، ممثلة برئيسه عيدروس الزبيدي ونائبيه أحمد سعيد بن بريك وفرج سالمين البحسني، انتشار قوات درع الوطن في وادي وصحراء حضرموت، وسحب القوات اليمنية إلى مأرب، ما يؤكد أن المسألة لم تكن رفضا مبدئيا، بل حلولا مطروحة آنذاك.
ننتقل إلى حديث بيان الخارجية السعودية عن أن “القضية الجنوبية عادلة… لكن”، وهي الجزرة السياسية المرهقة حتى للإدارة السعودية المسؤولة عن ملف اليمن؛ إذ إنها لا ترحّل الحلول لأنها لا تمتلك حلولا حقيقية، بل تمتلك جزرة سياسية معلّقة أمام حصان أزمة يمنية لم يعد يحتمل الخروج من الإسطبل إلى ميدان سباق مليء بالعثرات.
قدّم البيان اعترافا لفظيا بالقضية الجنوبية، لكنه اشترط حلّها ضمن إطار يمني شامل، لا تحت سقف دولة جنوبية أو إدارة ذاتية، بما يعني عمليا ترحيل القضية وإسقاطها من الحسابات السياسية عبر تفكيكها إلى قضايا مناطقية داخل الجنوب، حضرمية ومهرية وشبوانية وعدنية. وهو خطاب مناطقي لا يتردد بعض المسؤولين السعوديين في تبنيه، طالما بقيت القضية ضمن إطار يمني سقفه الأعلى حكم يمني، حتى وإن كان الواقع الحالي هو حكم ولاية الفقيه الحوثية. الرسالة واضحة: القضية عادلة، لكن توقيتها وشكلها وحدودها ليست بيدكم.
أما ما لم يقله البيان، وهو الأهم، فلا تهديد صريح باستخدام القوة، ولا حديث عن عقوبات، ولا جدول زمني، ولا بدائل في حال الرفض؛ ما يجعل البيان تحذيرا منضبطا لغويا لا إعلان مواجهة، لكنه يفتح الباب أمام تصعيد غير مباشر في حال عدم الاستجابة.
والهدف من ذلك هو كبح المجلس الانتقالي لا كسره، وإدارة الجنوب لا تفجيره. غير أن تضييق هامش المناورة أمام المجلس قد يدفع الرياض إلى استخدام أوراق ضغط اقتصادية أو سياسية سبق التلويح بها، من بينها إغلاق المطارات، أو التحشيد العسكري، أو العزل السياسي التدريجي تحت عناوين الدفاع عن "الحدود".
ومن زاوية أخرى، وبشكل موجز، لا يمكن القول إن السياسة السعودية تبني مقارباتها على استشارات يمنية، لكنها باتت تدرك حقيقة أصبحت واقعية، وهي أنها كدولة محورية في المنطقة لم تعد تمتلك تحالفات حقيقية ومستقرة في الداخل اليمني. فالخوثيون ذراع إيرانية صريحة، والإصلاح اليمني مرتبط بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، مهما حاولت بعض تياراته نفي ذلك.
كانت الخطيئة الكبرى، رغم التراجع عنها لاحقا، هي إنشاء كيانات جهوية داخل الجنوب، وهو تصرف يناقض المواقف المعلنة، ومنها الموقف الوارد في هذا البيان الذي أكد أن الجنوب قضية وطنية، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى أنه لا يمتلك دولة معترفا بها للتحرك وفق “موافقة سيادية”، وهو ما يمثل انتقاصا لقرار نقل السلطة الذي أكد مبدأ الشراكة.
ويظل سؤال افتراضي حاضرا، وإن بدا سابقا لأوانه: ماذا لو لم تعارض مأرب الإصلاحات الاقتصادية؟ وماذا لو انطلق الموقف السعودي من فرض هذه الإصلاحات بدلا من السعي إلى حلول مع الحوثيين عبر المبادرة العُمانية التي تمنحهم النصيب الأكبر؟ هل كانت هذه التطورات ستحدث؟.
اعترف بيان الخارجية السعودية، بصورة غير مباشرة، بأن مجلس القيادة الرئاسي لا يمثل الجنوب تمثيلا سياسيا حقيقيا، وأن معالجة الفراغ الأمني والإداري في المحافظتين لم تُنجز طوال سنوات، وهي معالجة تتطلب قرارا سعوديا واضحا، حتى وإن حاول البيان الإيحاء بأن الأمر محصور في صلاحيات رشاد العليمي.
فالبيان لا يناقش سبب تحرك الجنوب، بل ينطلق من افتراض أنه لا يملك حق المبادرة أصلا، ويذهب إلى القول إن هذا التحرك يضر بالقضية الجنوبية. والحقيقة أن القضية الجنوبية لم تتضرر من تحرك عسكري، بل تضررت من التسويف السياسي، وتدوير الأزمة، وإبقاء الجنوب بلا أفق.
ومن المرجح أن يغضب البيان المسؤولين في المجلس الانتقالي الجنوبي، لا بسبب المطالبة بالانسحاب، بل بسبب اللغة المستخدمة تجاه القضية الجنوبية، وهي لغة متكررة منذ سنوات مفادها: “نحن نحدد لكم متى تخدمون قضيتكم ومتى تضرون بها”. وهو ما يستدعي، برأيي الشخصي، مقاربة سعودية أكثر جدية وواقعية مع المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لا يزال يرى في الرياض حليفا لا خصما سياسيا.
وأخيرا، أرى أن تجاوز هذا البيان لا يكون بمواجهته، بل بالبناء على ما لم يقله، والانطلاق نحو حوار جاد وحقيقي تختار الرياض زمانه ومكانه، ولو كان في العاصمة عدن لكان وقعه أقوى. حوار لا يُطلب فيه من الجنوب التخلي عن مكاسبه الميدانية، ويقوم على ضمانات سياسية وشراكة أمنية حقيقية، مقابل جدول زمني لحل القضية الجنوبية خارج إطار الأزمة اليمنية. فقضية الجنوب وُلدت من فشل مشروع وحدة لم يحظَ بقبول إقليمي أو دولي، والجنوب يرفضه ويرفض نتائجه.
والمشجّع في هذا السياق أن بيان الخارجية السعودية لم يشر صراحة إلى مشروع الوحدة اليمنية، وهو ما قد يدل على وجود رغبة في فتح مسار حوار جديد يُسهم في تحريك الأزمة، وتحويل مكاسب حضرموت من مكاسب جنوبية داخلية إلى مكاسب إقليمية تكون السعودية وسلطنة عُمان من المستفيدين منها لا المتضررين.


