"إعادة تعريف الخطر الجنوب بدل إيران"..
هل انتقلت السعودية من مواجهة إيران إلى ضبط الجنوب؟.. قراءة في خطاب «الرياض»
يرصد التحليل تحوّل الخطاب السعودي من أولوية مواجهة إيران عسكريًا إلى إدارة ملف الجنوب سياسيًا، عبر رفض الاستقلال وتدويل القضية الجنوبية، بالتوازي مع تهدئة مع الحوثيين. ويطرح تساؤلًا حاسمًا حول حلفاء الرياض المستقبليين بين الإخوان والحوثيين، منتقدًا مقاربة ترى في بقاء الجنوب داخل الأزمة اليمنية ركيزة للحفاظ على الدور السعودي الإقليمي.
رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي يستقبل لجنة سعودية إماراتية في قصر معاشيق - إعلام رسمي
تصعّد المملكة العربية السعودية من لهجتها الإعلامية تجاه التطورات في الجنوب، مقابل تخفيف ملحوظ في الخطاب الموجّه إلى جماعة الحوثي، ما يفتح باب التساؤل حول شكل التحالفات المستقبلية للمملكة داخل اليمن. ففي لحظة تبدو فيها أولويات الصراع آخذة في التحوّل، يبرز سؤال جوهري.. من هم الشركاء الذين تعوّل عليهم الرياض في المرحلة المقبلة؟.
تنظر الصحافة السعودية إلى فكرة استقلال الجنوب من زاوية المخاطر الإقليمية، وما قد يترتب عليها من تداعيات مباشرة على ما تصفه بـ«التسوية السياسية الشاملة» للأزمة اليمنية، فوفق هذا الخطاب، لا يُنظر إلى «الاستقلال» بوصفه حلًا لقضية وطنية عادلة، ولدت من رحم حرب العام 1994م، واليت وقفت فيها الرياض على الضد من نظام صنعاء.
القضية الوطنية التي تقر "الرياض" بأنها قائمة، ترى الصحافة السعودية أنها عامل إضافي لتفكيك المشهد، وتهديد لمسار سياسي هش لم ينجح، حتى الآن، في إنتاج نهاية واضحة لحرب دخلت العقد الثاني من الحرب دون أفق حقيقي للحل.
وفي هذا الإطار، لا يبدو التصعيد الإعلامي موجها إلى الجنوب بحد ذاته، بقدر ما يعكس محاولة لضبط مسار النقاش السياسي ومنع انتقاله من مربع المطالب إلى مربع فرض الوقائع، فالسردية السعودية، كما تظهر في خطابها الإعلامي، تسعى إلى إبقاء ملف الجنوب داخل معادلة الاستقرار الإقليمي، لا خارجه، وإلى إدارة الأزمة بدل السماح بانفجارها في توقيت ترى الرياض أنه الأكثر خطورة على اليمن والمنطقة معا.
لم يقتصر دور الصحافة السعودية على التصعيد بلغة تُشبه إلى حدٍّ كبير تلك اللهجة التي استخدمتها ضد الحوثيين مع انطلاق عملية «عاصفة الحزم» عام 2015م، غير أن المشهد اليوم، وإن بدا مختلفًا، إلا أن المقاربة السعودية لا تزال قائمة على اعتبار وادي وصحراء حضرموت عمقًا استراتيجيًا. هذا العمق – كما هو مُعلن – لا يتحقق إلا عبر هدفين: إما دعم فصل محافظة حضرموت، أو إعادة تدوير الجنوب في إطار أزمة يمنية أوسع، دون حلول واقعية.
وسط هذه المقاربة، يبرز سؤال جوهري: من هم الحلفاء المستقبليون للمملكة العربية السعودية في اليمن؟ يقول الكاتب السعودي عبدالرحمن الراشد إن الحوثيين الموالين لإيران يمكن أن يكونوا حلفاء للرياض إذا أرادوا ذلك، دون التطرق إلى وجود جماعة الإخوان المسلمين، التي تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة في محافظة مأرب.
ويقول الصحافي المتخصص في الشؤون اليمنية فواز منصر إن تنظيم الإخوان في اليمن اخترق ما يُعرف بـ«الدولة العميقة» وجهاز المخابرات اليمنية عبر ضابط هو رئيس الحزب محمد اليدومي، الذي كان ضابطًا في جهاز الاستخبارات قبل اكتشاف أمره وإقالته. إلا أن التنظيم السري للإخوان في اليمن، الذي نجح في الإطاحة بنظام علي عبدالله صالح، بات اليوم يمتلك قوة عسكرية لا يُستهان بها. ورغم أن هذا الأمر يُعد مخالفًا لقانون الأحزاب اليمنية، إلا أن التنظيم أصبح ذراعًا إقليميًا لكل من قطر والسعودية، غير أنه عند اندلاع الأزمة مع الدوحة اختار التمترس إلى جانب الدولة القطرية ضد المملكة العربية السعودية.
وبعد المصالحة الخليجية، انقسم تنظيم الإخوان إلى تيارين: «الصقور» و«الحمائم». ترى الصقور أن أزمات اليمن المتتالية منذ الإطاحة بالنظام الإمامي في صنعاء مطلع ستينيات القرن الماضي مرتبطة بالسعودية، وهو ما أشارت إليه قناة «يمن شباب» المملوكة للإخوان بشكل صريح. وعلى النقيض، تقدّم قناة «سهيل» شبه الرسمية، التي تبث من جدة بتمويل سعودي، الدور السعودي بوصفه محوريًا، وتصف العلاقة مع المملكة بأنها تاريخية وأبدية.
هذا الانقسام ساهم في الحفاظ على التنظيم من التفكك، إذ إن الانتكاسات العسكرية التي تعرّض لها كانت كفيلة بتفكيكه على غرار فروع أخرى في المنطقة. غير أن جناحي «الصقور والحمائم» حافظا على العلاقة بالرياض، قبل أن يبنيا جيشًا أيديولوجيًا في مأرب، وتشكيلات أخرى في مدينة تعز.
لم يخض الإخوان أي قتال جاد ضد الحوثيين منذ أحداث عمران في يوليو 2014م، حين أوقف التنظيم مواجهة الحوثيين، وظل على الحياد حتى بعد أحد عشر يومًا من انطلاق عملية «عاصفة الحزم»، ليعلن لاحقًا تأييده للعمليات العسكرية عبر بيان رسمي. ومع ذلك، ظل بعض قياداته، ومن بينهم زيد الشامي، على تواصل مع الحوثيين.
وقد يكون للجنرال العسكري الإخواني علي محسن الأحمر دور في هدنة غير معلنة بين الطرفين مطلع عام 2016م، أي بعد نحو عشرة أشهر من انطلاق عملية «عاصفة الحزم». غير أن هذا التحول الاستراتيجي لم يكن كافيًا لحماية ترسانة الإخوان المسلمين؛ ففي عام 2020م، وبالتزامن مع مواجهة اليمن لأزمة «كوفيد-19»، أسقط الحوثيون أكبر قاعدة عسكرية للجيش اليمني في فرضة نهم، حيث سيطروا على أسلحة وآليات عسكرية تابعة لسبعة ألوية، فيما انسحبت القوات إلى مأرب.
هذه الانتكاسة أغضبت السعوديين، الذين أجروا مراجعة داخلية في قيادة القوات المشتركة، غير أن الإخوان كانوا يناورون لإدراكهم أنهم ليسوا حلفاء دائمين للرياض.
وعلى النقيض من ذلك، اتجهت السعودية نحو تهدئة «باردة» مع الحوثيين الموالين لإيران، بالتزامن مع مفاوضات مع طهران في العراق والصين وسلطنة عمان، تُوّجت بإعلان اتفاق في مارس 2023م.
جاء هذا الاتفاق متوافقًا مع رغبة جماعة الإخوان في تعزيز ترسانتها العسكرية والاستعداد لأي تطورات مستقبلية، إذ ترى أن الصراع مع الحوثيين غير مجدٍ بالنسبة لها، في حين تبحث الرياض عن ضمانات حقيقية مع إبقاء الأيدي على الزناد.
في تلك المرحلة، شعرت إيران أن الاتفاق قد يكون مُرهقًا لها ولأذرعها، وقد يقيّد قدرتها على المناورة، فسرّبت معلومات صحافية تتحدث عن تمرّد أذرعها في اليمن وعدم ثقتها بها. تعاملت السعودية مع هذه التسريبات بوصفها مراوغة إيرانية لا يمكن التغاضي عنها، فسارعت إلى توجيه رسائل إلى طهران، وإلى الصين بصفتها راعية للاتفاق. لاحقًا، عادت إيران إلى تجديد الالتزام بالاتفاق بعد الحصول على تعهدات من الطرفين، كان من أبرزها المضي في إطلاق سراح مئات الأسرى والمعتقلين، بينهم ضباط سعوديون وسودانيون ومدنيون يمنيون.
قوبلت هذه الصفقة بترحيب إقليمي ودولي واسع، باعتبارها خطوة مهمة نحو تطبيع أكثر التزامًا بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية، ليس بسبب الوسيط العُماني فحسب، بل لأنها تمثل امتدادًا لتفاهمات أوسع. فالرياض لا تمانع بقاء الحوثيين، شريطة ألا يشكّل وجودهم تهديدًا مستقبليًا، وترى أن التفاهم مع إيران قد يوفر ضمانة أوسع من أي تهديدات محتملة.
وفي هذا السياق، يُلاحظ أن الخطاب الإعلامي السعودي شهد تغيرًا ملحوظًا خلال ديسمبر 2025م. فالخطاب المناهض لمشروع استقلال الجنوب العربي بدأ فعليًا منذ عام 2023م، بالتزامن مع مفاوضات الاتفاق السعودي–الإيراني، غير أن تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي في انتزاع وادي وصحراء حضرموت من قوات المنطقة العسكرية الأولى الموالية لجماعة الإخوان، ضاعفت من حدة هذا الخطاب.
ويقول السعوديون إن حضرموت والمهرة تمثلان عمقًا استراتيجيًا للمملكة، وإن مسألة الاستقلال مرفوضة بوصفها «انفصالًا للجنوب». غير أنه، وقبل هذه الأزمة، كانت المملكة تلوّح بخيارات من بينها «فصل حضرموت عن محيطها»، وأسست، بإشراف سفيرها لدى اليمن، كيانًا جهويًا في عام 2023م.
اللافت أن الخطاب الإعلامي السعودي لم يقتصر على الوسائل التابعة له، بل امتد إلى تمويل صحف ومؤسسات إعلامية إقليمية ودولية بهدف تغيير نبرة تغطيتها. وتشير مصادر موثوقة لـ«اليوم الثامن» إلى أن الرياض موّلت شراء صحيفة عربية عريقة كانت، قبل الأزمة، تتناول الملف اليمني–الجنوبي من منظور مهني ومحايد، لكنها باتت اليوم تكرر الخطاب السعودي ذاته، مستخدمة المصطلحات نفسها.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة «الرياض»، التي تُعد من أبرز الصحف الرسمية في المملكة، في 22 ديسمبر 2025م، مقالة بعنوان: «الانفصال.. خيار مستحيل جيوسياسيًا في اليمن».
تمثل هذه المقالة تحوّلًا كبيرًا في سياق الخطاب السعودي، لكنها لا تجيب عن السؤال الجوهري: من هم حلفاء السعودية مستقبلًا، الإخوان أم الحوثيون؟ فالإخوان أقرب سياسيًا إلى الدوحة منهم إلى الرياض، فيما بات معروفًا أن الحوثيين يشكلون ذراعًا إيرانية في خاصرة الجزيرة العربية، على غرار الحشد الشعبي في العراق.
تطرح الصحيفة موقفًا قاطعًا مفاده أن «انفصال الجنوب ليس خيارًا واقعيًا»، مؤكدة أن فكرة استقلال الجنوب غير قابلة للتطبيق جيوسياسيًا، باعتبارها تمثل تهديدًا إقليميًا واسعًا، لا مجرد قضية يمنية داخلية. غير أن هذا الطرح يتناقض تمامًا مع ما كان يعلنه السفير السعودي لدى اليمن سابقًا، حين أكد أن قضية الجنوب قضية حية، وأن حلها يمثل أولوية ضمن الأزمة اليمنية. إلا أن الواضح اليوم أن الإعلام السعودي يتجه نحو تدويل القضية، وتحويلها من شأن داخلي إلى أزمة إقليمية.
وترى صحيفة «الرياض» أن السعودية لا ترفض فكرة الانفصال فحسب، بل إن محاولات المجلس الانتقالي الجنوبي تحقيق هذا الهدف قد تقود إلى توترات كبرى في الإقليم الممتد من الجزيرة العربية إلى القرن الإفريقي والبحر الأحمر. وقد يبدو هذا الطرح مبالغًا فيه، غير أن التهديدات التي شكّلها الحوثيون على خطوط الشحن، وعمليات التهريب الواسعة، ونشاط تنظيم القاعدة، وتهريب الأسلحة عبر المنافذ البرية والبحرية في المهرة، تمثل جميعها تهديدًا حقيقيًا. فقد حصل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، قبل ثلاث سنوات، على شحنة طائرات مسيّرة كانت في طريقها إلى الحوثيين، وفق ما أفادت به وسائل إعلام يمنية آنذاك.
وانطلاقًا من ذلك، ترى الصحافة السعودية أن استخدام «فزاعة الانفصال» قد يربك إدارة المشهد اليمني، إذ تعتبر أن خطوات المجلس الانتقالي الجنوبي قد تعطل أو تربك اتفاق التسوية مع الحوثيين، ما يعني دخول المنطقة في أزمة لا ترغب الرياض في استمرارها، أو ترى أن تجميدها يمثل الخيار الأمثل.
ولا تجد الصحيفة مبررًا مباشرًا لمعارضة استقلال الجنوب، لكنها ترى أن الكشف عن هذه المبررات «يحتاج إلى آليات تحليل استراتيجي قوية، لا مجرد قراءة سطحية». وفي هذا السياق، تعمل الصحيفة على إفراغ القضية الوطنية الجنوبية من مضمونها، عبر الإيحاء بأن هذه القضية نتاج «أجندات خارجية أو مصالح إقليمية» تقف خلف طرح مشروع الاستقلال، وليست تعبيرًا عن إرادة شعبية حقيقية.
وتزعم الصحيفة أن دولًا كبرى، لم تسمها، ترى في وحدة اليمن عنصر استقرار استراتيجي للتجارة البحرية والأمن الإقليمي، خاصة في ظل ارتباط اليمن بالهلال الأمني للبحر الأحمر والقرن الإفريقي. غير أنها لم تتطرق إلى التهديدات التي أحدثها الحوثيون مؤخرًا، ولا إلى موقف الرياض المعارض لعملية «حارس الازدهار».
وتؤكد صحيفة «الرياض» أن السعودية، بصفتها طرفًا محوريًا، تدعم حقوق الجنوبيين، ولكن ضمن إطار دولة يمنية واحدة، دون تقديم رؤية واضحة لطبيعة نظام الحكم الذي سيكون الحوثيون طرفًا فيه، وهم جماعة تقوم على مرجعية ولاية الفقيه. وبذلك تصبح كل الحلول المطروحة «مستحيلة» بدرجة لا تقل عن «استحالة الاستقلال» التي تروج لها الصحيفة. فالموقف السعودي هنا يقوم على تثبيت وحدة اليمن كخط أحمر جيوسياسي، مع فتح باب النقاش حول الحقوق والمطالب داخليًا، من دون الوصول إلى خيار الانفصال الكامل.
غير أن هذا التوجه يترافق مع ما يمكن وصفه بمحاولة «تشتيت القضية الوطنية الجنوبية» وتحويلها إلى قضايا فرعية، بما يؤدي إلى إضعاف وحدة الموقف الجنوبي، وتقويض مشروعية القضية الوطنية القائمة على حق استعادة دولة الجنوب، التي دخلت في اتحاد هش لم يدم سوى أشهر قليلة مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وتشدد الصحيفة السعودية على أن استقلال الجنوب قد يؤدي إلى فتح ثغرات أمنية تستغلها قوى معادية، وأن الفوضى قد تتوسع لتؤثر على استقرار القرن الإفريقي والبحر الأحمر. إلا أن هذه الرؤية تنطلق من مقاربة قائمة على أولوية الوصول إلى تسوية سياسية مع الحوثيين، وما يرافقها من كلفة تفاوضية تقوم على معادلة «المناطق المحررة مقابل المناطق المحتلة» أو «النفط مقابل السلام»، وهي معادلة رفضها المجلس الانتقالي الجنوبي منذ وقت مبكر. إذ يرى المجلس أن منح الحوثيين ما يقارب 80% من موارد النفط يمثل انتهاكًا صارخًا لموارد تمثل أولوية حيوية لشعب الجنوب.
ورغم هشاشة هذه الحلول، فإن إجبار الجنوب على البقاء ضمن إطار الأزمة اليمنية الشاملة يظل ركيزة أساسية في المقاربة السعودية، التي تسعى إلى الحفاظ على دورها كلاعب مركزي في إدارة الملف اليمني، مع الإقرار بالحقوق الجنوبية ضمن وحدة يمنية. ومن هذا المنطلق، يُنظر إلى أي طرح خارج هذا الإطار على أنه يخدم أجندات إقليمية غير معلنة، أكثر مما يخدم مصالح يمنية خالصة.


