"تحوّل المقاومة إلى مشروع دولة"..

عيدروس الزُبيدي يعيد بناء المشهد السياسي لجنوبٍ خالٍ من الحوثيين والإخوان

تلخص هذه القراءة مسار الجنوب من الوحدة إلى الحراك والمقاومة وحرب 2015، وصولاً إلى صعود عيدروس الزبيدي وتشكيل المجلس الانتقالي، مع إبراز التحولات العسكرية في حضرموت والمهرة، وتراجع نفوذ الإخوان والحوثيين، واقتراب الجنوب من بناء دولة مستقلة تستند إلى قوة ميدانية وتفاهمات إقليمية.

عيدروس الزُبيدي… القائد الذي يحوّل معارك الجنوب إلى مشروع دولة

صالح أبوعوذل
كاتب وباحث وسياسي مستقل، رئيس مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، ومقرها العاصمة عدن

في الذكرى الـ 58 لعيد الاستقلال، عاد الجنوب إلى مسرح السياسة بملامح دولة تتشكّل من بين ركام ثلاث حروب وصراعين إقليميين، يقودها رجلٌ جاء من قلب المقاومة، ليصبح اليوم رمزاً سياسياً يحظى بقاعدة شعبية كبيرة، ويحمل على عاتقه

لم تكن قضية استقلال "اليمن الجنوبي" مسألة هامشية أو تفصيلًا ثانويًا في سجلات الصراع اليمني، بل جاءت نتيجة تراكم طويل من الأخطاء والتجاوزات التي أصابت مشروع الوحدة السلمي في صميم مشروعيته. فالوحدة التي أُعلنت في 1990 لم تُبنَ على أسس سياسية سليمة، بل فُرضت في لحظة إقليمية مرتبكة، تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتغير موازين القوى في المنطقة، إضافة إلى كون الجنوب نفسه مثقلاً بجراح حرب أهلية أنهكت دولته وأضعفت مؤسساته وخلفت انقسامًا اجتماعيًا عميقًا.

وفي تلك اللحظة الحرجة، رأى قادة الجنوب – وفي مقدمتهم الرئيس علي سالم البيض – أن خيار الوحدة اليمنية قد يشكّل مخرجًا لإعادة ترتيب البيت الجنوبي، وتعويض الانقسامات الداخلية عبر إطار وطني أوسع. غير أن حسابات القوى اليمنية الشمالية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، ذهبت في اتجاه مختلف تمامًا. فقد تعاملت الجماعة مع الجنوب بوصفه امتدادًا للنفوذ السوفيتي السابق، ولدولة اشتراكية أظهرت طوال عقود تقاربًا وثيقًا مع موسكو، ما جعلها تنظر إلى شريك الوحدة باعتباره خصمًا أيديولوجيًا ينبغي التخلص منه.

 

ومع بداية شهور الوحدة الأولى، تحولت هذه النظرة إلى مشروع سياسي متكامل للانقضاض على الحزب الاشتراكي وتصفية شريك الوحدة، وهو ما فتح الباب لتحالف تكتيكي بين الإخوان والمؤتمر الشعبي العام. 

بدأ التحالف بين حزب المؤتمر الشعبي العام وجماعة الإخوان المسلمين في أوائل التسعينيات بأوسع موجة اغتيالات سياسية شهدها الجنوب منذ إعلان الوحدة، إذ طالت أكثر من 150 مسؤولًا جنوبيًا، بينهم شخصيات مقربة من نائب رئيس دولة الوحدة علي سالم البيض. ومؤخرًا ظهر القيادي الإخواني البارز زيد الشامي ليبرر تلك الاغتيالات باعتبارها "ردة فعل" على ذهاب البيض إلى عدن بدلًا من صنعاء، حيث كان يفترض – حسب روايته – ممارسة مهامه من العاصمة.

هذا التبرير ألقى الضوء على حقيقة يعرفها الجنوبيون منذ سنوات: أن تلك الاغتيالات تمت بعلم ورضا من الرئيس علي عبدالله صالح، وهو ما أقرّ به لاحقًا حين اعترف بتحالفه مع الإخوان بهدف إضعاف الحزب الاشتراكي، وإن كان يؤكد أن هذا التحالف لم يكن استراتيجيًا، بل قائمًا على استخدام الإخوان كأدوات للعنف والضغط السياسي. لاحقًا أدرك قادة المؤتمر أن هذا التحالف كان خطأً فادحًا، إذ ساهم في تمكين العناصر الجهادية والإخوانية التي تطورت لاحقًا إلى نواة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عبر دمج فرعي اليمن والسعودية.

ولم تكن حرب 1994 واجتياح عدن في السابع من يوليو سوى محطة دامية فجّرت سلسلة من حركات الرفض الجنوبية، أبرزها "موج" و"حتم" وغيرها من الكيانات السياسية والمسلحة التي عبّرت مبكرًا عن رفض سياسة الضم والإلحاق، وعن معاناة الجنوب الذي تحوّل إلى "غنيمة حرب" تتقاسمها قوى النفوذ القبلية والدينية والعسكرية في صنعاء.

ومن رحم تلك المرحلة المضطربة، برز عيدروس الزبيدي، الضابط السابق في القوات الجوية الجنوبية، مع رفاقه من العسكريين الذين واجهوا مطاردة مستمرة من أجهزة الدولة اليمنية على مدى عقدين. وظل الزبيدي يتحرك بين الجبال والصحاري، حتى جاءت لحظة السابع من يوليو 2007، حين فجّر المسرحون العسكريون والأمنيون الجنوبيون أول انتفاضة سلمية في عدن رفضًا لسياسات صنعاء.

وفي ساحة العروض بخور مكسر، حيث كان الجيش الجنوبي قد نفّذ آخر عرض عسكري له في 30 نوفمبر 1989، وقف الزبيدي يراقب الضباط والجنود القدامى يهتفون ضد النظام ويطالبون بإحياء إعلان فك الارتباط الذي أعلنه الرئيس البيض في المكلا يوم 21 مايو 1994، عقب فتوى التكفير الشهيرة التي أصدرها شيوخ الإخوان ضد الجنوب.

وفي الوقت ذاته، كان العميد سعيد صالح الشحتور، أحد قادة جيش الجنوب، يقود مقاومة مسلحة في أبين، مؤمنًا بأن السلاح هو الخيار الوحيد لإخراج الجيش اليمني من الجنوب. واستمرت المظاهرات السلمية أسبوعيًا في ساحة العروض، بينما كانت قوات صنعاء تمارس القمع العنيف ضد المحتجين. وتشير إحصائيات الحراك الجنوبي إلى سقوط عشرات الآلاف من الجنوبيين – معظمهم من الشباب وطلاب الجامعات – خلال مسيرة النضال السلمي حتى أحداث فبراير 2011، حين انقلب حلفاء النظام في صنعاء على الرئيس صالح.

ورأى الجنوبيون في تلك الانتفاضة محاولة جديدة للالتفاف على قضيتهم، فابتعدوا عن تظاهرات الإخوان التي اتخذت طابعًا أكثر عنفًا في تاريخ الاحتجاج السلمي اليمني. وتزامنت هذه الفوضى مع تعرض الرئيس صالح لمحاولة اغتيال في مسجد دار الرئاسة، الحدث الذي غيّر موازين القوى ودفعه إلى تسليم السلطة لنائبه عبدربه منصور هادي.

تسلّم هادي الحكم في لحظة كانت البلاد تقف فيها على حافة حرب مفتوحة. فالطرف الذي كان مهزومًا حتى 10 فبراير 2011 – أي الحوثيون – أصبح في صنعاء، ليحصل لاحقًا على اعتراف سياسي كامل داخل مؤتمر الحوار الوطني باعتباره "قوة مظلومة" تسعى إلى تمثيل طائفي ومناطقي أفضل.

 

وخلال تلك الفترة، كان هادي يشرف على تمويل الحرب ضد الإرهاب في أبين وشبوة وعدن عبر لجان شعبية قبلية، في حين كان عيدروس الزبيدي يبني قوة مقاومة مسلحة في جبال الضالع، ويتنقل بين عدن وأبين وشبوة وحضرموت والمهرة لتدريب المقاتلين الجنوبيين. وقد وجد الزبيدي في الجيل الذي وُلد مع مشروع الوحدة حاضنة شعبية متعطشة لاستعادة الهوية الوطنية الجنوبية.

ثم جاءت الحرب الحوثية في مارس 2015 لتفتح فصلًا جديدًا في تاريخ الجنوب. فمن معركة مطار عدن إلى قاعدة الصولبان، بدأت المقاومة الجنوبية تسجيل حضورها العسكري، وبرز القائد علي الصمدي الذي أصدر بيان الحرب ودعا دول الخليج والعالم إلى دعم الجنوب في مواجهة المشروع الإيراني، قبل أن يستشهد في فجر 19 مارس، أي قبل أسبوع واحد من انطلاق عملية "عاصفة الحزم" التي قادتها السعودية والإمارات.

ومع انطلاق عملية عاصفة الحزم في مارس 2015، كانت وحدات نخبة إماراتية تتقدم عبر البحر نحو عدن، مزوّدة بأسلحة حديثة وآليات افتقدتها المقاومة الجنوبية في معاركها الأولى. وتكررت معركة مطار عدن مرة أخرى، وسقط الشهيد علي الصمدي بالتزامن مع استشهاد الضابط الإماراتي البطل عبدالعزيز الكعبي، في مشهد جسّد حجم الترابط العسكري بين المقاومة الجنوبية وقوات التحالف. وفي الوقت نفسه، كانت جبهات الضالع ترسم الفصل الأخير لسقوط أكبر قاعدة عسكرية يمنية أعلنت ولاءها للحوثيين في المحافظة.

لقد شكّل الدعم الإماراتي، وخبرة ضباط الجيش الجنوبي السابق، واستبسال شباب المقاومة، عناصر حسم مفصلية مكّنت من تحرير عدن ولحج وأبين وشبوة، ثم الانتقال لاحقًا إلى تحرير ساحل حضرموت من قبضة تنظيم القاعدة.

غير أن تأمين المكلا لم يكن نهاية الحرب، بل بدايتها الجديدة. فتنظيمي القاعدة وداعش عادا لتنفيذ هجمات إرهابية خاطفة استهدفت الحكومة وقوات التحالف في عدن، لتتعقد مهمة بسط الأمن. وفي ظل هذا الوضع، كلف الرئيس عبدربه منصور هادي اللواء عيدروس الزبيدي بمهمة إعادة ضبط المشهد الأمني في العاصمة المؤقتة.

وفي مشهد سياسي موازٍ، كان القيادي في المقاومة الجنوبية أديب العيسي يرابط داخل قصر معاشيق بالقرب من الرئيس هادي، لدفعه نحو إصدار قرار بتشكيل قوة جنوبية نظامية ودمج المقاومة المسلحة ضمن مؤسستي الجيش والأمن. 

وقد جاء القرار فعلًا بإطلاق عملية أمنية واسعة تحت مسمى قوات الحزام الأمني، وهي قوات دعم وإسناد تتبع الجيش، شكّلت النواة الأولى لقوة جنوبية قادرة على مكافحة الإرهاب وتأمين عدن والمحافظات المجاورة.

لكن الحرب لم تتوقف. فقد استدعت التطورات توسيع العمليات العسكرية ضد الحوثيين، ليصدر قرار تشكيل قوات العمالقة الجنوبية بقيادة اللواء أحمد سيف اليافعي، الذي استشهد في قصف صاروخي استهدفه أثناء وجوده في ميناء المخا.

وتقدمت قوات العمالقة، مدعومة بالقوات التهامية و”حراس الجمهورية”، صوب الحديدة مع بداية عام 2018، ووصلت إلى مسافة قريبة من الميناء، وكانت على وشك تسجيل لحظة مفصلية قد تُنهي المشروع الإيراني في اليمن. غير أن اتفاقًا رعته الأمم المتحدة، هو اتفاق ستوكهولم، منح الحوثيين طوق نجاة أخيرًا، وأوقف التقدم العسكري عند أهم شريان اقتصادي كان يمكن أن يغير مسار الحرب بالكامل.

رغم أن عيدروس الزبيدي كان واحدًا من أبرز القادة العسكريين الذين تصدّوا للمشروع الإيراني في الجنوب، فإن موقفًا إقليميًا – وإن اتسم بالحذر والفتور – لم يكن راضيًا عن توليه قيادة السلطة المحلية في عدن. ويعود ذلك، وفق مصادر يمنية، إلى تقارير سياسية حاولت الإيحاء بوجود صلات بينه وبين إيران، وهي اتهامات ردّ عليها الزبيدي بوضوح مؤكّدًا أن «القائد الذي هزم المشروع الإيراني على تخوم عدن، لا يمكن أن يكون جزءًا منه»، في إشارة إلى معارك الضالع التي شكّلت نقطة تحول في كبح التمدد الحوثي.

 

وأثمرت الضغوط الإقليمية عن صدور قرار إقالته في ذكرى الاجتياح الشهير لعدن، يوم السابع والعشرين من يوليو 2017. غير أن الزبيدي كان قد سبق هذا القرار بإعلان نيته تأسيس كيان سياسي جنوبي يمثّل إرادة الشارع ويعبّر عن تطلعاته نحو الاستقلال. وفي الرابع من مايو من العام نفسه أُعلن عن تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي برئاسة الزبيدي، ونيابة وزير الدولة هاني بن بريك، وعضوية محافظ حضرموت اللواء أحمد سعيد بن بريك، إلى جانب قيادات سياسية وعسكرية أخرى.

وقد شكّل إعلان المجلس علامة فارقة في تاريخ الجنوب الحديث؛ إذ مثّل أول إطار سياسي منظم منذ حرب 1994 يعلن تبنّيه لمشروع الاستقلال بصورة واضحة. إلا أن هذا الإعلان قوبل برفض واسع من القوى اليمنية المرتبطة بحكومة صنعاء ومأرب، فيما أبدت السعودية – التي كانت تعيد ترتيب ملف حلفائها المحليين – موافقة حذرة على استمرار المجلس في مساره السياسي دون منح شرعية كاملة لمطالبه في تلك المرحلة.

واجَه المجلس الانتقالي صعوبات عديدة، بعضها نابع من التعقيد البنيوي للمشهد اليمني، وبعضها الآخر مرتبط بتوازنات الإقليم. ومع ذلك، كان المجلس في كل أزمة يظهر قدرة متزايدة على تجاوز التحديات. لكن العقبة الأكثر صلابة ظلت قائمة في وادي وصحراء حضرموت، حيث تتمركز قوات المنطقة العسكرية الأولى، وهي آخر تشكيلات عسكرية متبقية خارج نطاق تأثير عاصفة الحزم. فقد بقيت تلك القوات محمية بقرار سياسي يتصل بنفوذ الجنرال علي محسن الأحمر، الذي غادر صنعاء فجر 21 سبتمبر 2014 متجهًا إلى الرياض عبر السفارة السعودية بعد انهيار العاصمة بيد الحوثيين.

وبذلك ظل وجود تلك القوات في الوادي والصحراء حاجزًا أمام استكمال سيطرة المجلس الانتقالي على كامل الجغرافيا الجنوبية، وأحد أبرز ملفات الصراع التي رافقت تحوّل المجلس إلى لاعب رئيسي في مستقبل اليمن والجنوب على حد سواء.

على امتداد سنوات الحرب، كانت المملكة العربية السعودية تلجأ إلى إدارة الأزمات عبر ترحيل الخلافات وصياغة اتفاقات تهدئة بدلاً من إنتاج حلول جذرية. ورغم أن هذه الاتفاقات أوقفت بعض جولات التصعيد، فإنها لم تُنهِ الصراع، بل ساهمت في تمديده. غير أن المشهد تغيّر جذريًا في السابع من أبريل 2022، وهو التاريخ الذي شكّل نقطة تحول كبيرة في مسار المواجهة مع إيران وأذرعها في اليمن.

ففي أواخر عام 2021، أسقط الحوثيون أهم إقليم في محافظة شبوة النفطية، وهي مديريات بيحان، واقتربوا من السيطرة على كامل المحافظة، بما في ذلك شريط ساحلي استراتيجي على بحر العرب. عندها، أطلقت قوات العمالقة الجنوبية أوسع عملية عسكرية منذ بداية الحرب، من المخا غربًا حتى شبوة شرقًا، وتمكنت خلال أسابيع من طرد الحوثيين من بيحان وحريب وتأمين حدود شبوة ومأرب معًا.

هذا التحول العسكري قادته العمالقة الجنوبية وسط انتقادات سياسية حادة من أطراف داخل الشرعية اليمنية، الأمر الذي دفع السعودية إلى السعي لصياغة مخرج سياسي جديد. فجاء الإعلان عن مجلس القيادة الرئاسي، الذي تسلّم السلطة من الرئيس عبدربه منصور هادي، وضمّ في عضويته القوى العسكرية الأكثر تأثيرًا: العمالقة، حراس الجمهورية، والمجلس الانتقالي الجنوبي.

لكن المجلس منذ تأسيسه شابته أخطاء جوهرية، أبرزها اختيار رئيس لا يمتلك توافقًا كافيًا بين أهم القوى الفاعلة. إذ كان من الممكن إبقاء هادي رئيسًا شكليًا للدولة، وتشكيل مجلس قيادة يدير المرحلة تحت مظلته بصفته الرئيس المنتخب في 2012. إلا أن الرؤية السعودية اتجهت نحو تشكيل مجلس جديد بالكامل، بعيدًا عن هادي ونائبه علي محسن الأحمر.

ومع أن المجلس شهد اضطرابات واضحة منذ يومه الأول، فإن اثنين من أعضائه—وهما اللواء فرج سالمين البحسني، محافظ حضرموت وقائد المنطقة العسكرية الثانية سابقًا، واللواء عبدالرحمن أبو زرعة المحرمي، قائد قوات العمالقة الجنوبية—اقتربا سياسيًا من عيدروس الزبيدي، وانضمّا إلى مسار داعم لرؤيته داخل المجلس الانتقالي الجنوبي.

 

ورغم أن المجلس الانتقالي بات ممثلًا بثلاث شخصيات داخل مجلس القيادة الرئاسي، فإن موقفاً اقليمياً منح رئيس المجلس رشاد العليمي مساحة حركة مستقلة وغطاءً سياسيًا خاصًا، مكّناه من اتخاذ قرارات منفردة في لحظات حساسة. وقد أدّى ذلك إلى تعقيد المشهد، بل كاد يؤدي إلى تفكك المجلس، قبل أن تتدارك السعودية الأمر عبر إعادة ترتيب التفاهمات بين الأعضاء.

ومع ذلك، واصل عيدروس الزبيدي المضي في مشروعه السياسي، مستندًا إلى دعم صلب من القيادات الجنوبية داخل المجلس، وعلى رأسهم اللواء فرج البحسني، الذي بات اليوم أحد أبرز مهندسي التحول السياسي والعسكري في حضرموت. فمنذ إقالته من منصب محافظ المحافظة، ظل البحسني متمسكًا بحقه في لعب دور أساسي في تحديد مستقبل حضرموت، وفي أن يكون صانع القرار الأول في اختيار قيادتها المحلية والعسكرية القادمة.

التوجّه المتزايد نحو دعم اللواء فرج سالمين البحسني أثار غضب بعض الأطراف الإقليمية والمحلية، التي سارعت إلى الدفع نحو إنشاء كيان جهوي مسلح يقوده وكيل محافظة حضرموت عمرو بن حبريش العليي، نجل شقيق الزعيم القبلي الراحل سعد بن حبريش الذي قُتل برصاص قوات الجيش اليمني عام 2013. ومنذ أشهر، يقود بن حبريش تمردًا مسلحًا ضد السلطة المحلية، تصاعدت وتيرته بصورة لافتة، ما دفع الرياض مرة أخرى إلى التدخل ودعم مطالب البحسني، والموافقة على تغيير المحافظ مبخوت بن ماضي وتعيين سالم أحمد سعيد الخنبشي بديلًا عنه.

غير أن هذا التغيير لم يُنهِ حالة التصعيد. فقد اتجه بن حبريش لاحقًا إلى السيطرة على قوات حماية المنشآت النفطية في هضبة حضرموت، وهو تحرّك زاد من تعقيد المشهد الأمني والعسكري. ورغم أن بعض الدوائر تربط صعود هذا التمرد بدعم إقليمي من أطراف لها صلات بإيران وعُمان، فإن المعطيات الراهنة تشير إلى أن مرحلة "بن حبريش" تتجه نحو نهايتها، وأن حضرموت تقترب من مرحلة حسم لصالح قوات النخبة المحلية التي أثبتت خلال سنوات قليلة قدرتها على تأمين الساحل والهضبة بكفاءة عالية.

 

وفي ظل التوتر في حضرموت، كان عيدروس الزبيدي يقود مشهدًا مختلفًا تمامًا في عدن. فقد شهدت ساحة العروض عرضًا عسكريًا لوحدات خريجي الكلية الحربية والجيش والأمن والشرطة النسائية، مشهدًا أعاد للأذهان آخر استعراض عسكري للجيش الجنوبي في 30 نوفمبر 1989، في الساحة ذاتها التي ولدت فيها مبكرًا ملامح الحراك والمقاومة الجنوبية. لكن الفارق اليوم كبير؛ فالزبيدي، الذي يقدمه أنصاره بوصفه "رئيس الدولة القادمة"، يعمل على بناء مداميك دولة جنوبية جديدة خالية من الإسلام السياسي بشقّيه السني (الإخوان)، والشيعي (الحوثيين).

ومع ذلك، يواجه الزبيدي انتقادًا واضحًا يتعلق بعدم احتواء القوى السياسية الجنوبية والتحالفات القبلية التي شكّلت رافعة مهمة للمجلس الانتقالي طوال ثماني سنوات. إذ بات الرجل يعتمد بدرجة أكبر على دائرة ضيقة من المقرّبين، وسط غياب واضح لرموز محورية في المجلس مثل: هاني بن بريك، أحمد سعيد بن بريك، عدنان الكاف، عبدالرحمن شيخ، وآخرين.

وتكرر هذه القيادات – التي غابت قسرًا أو تُغيّبت سياسيًا – دعواتها للحفاظ على وحدة المجلس، وترجمة مفهوم الشراكة الوطنية داخل مؤسساته السياسية والإعلامية والأمنية والعسكرية، على أسس واضحة تمنع الإقصاء وتسدّ أي فجوات قد يستغلها تحالف الإخوان والحوثيين لإرباك الجنوب أو اختراق جبهته الداخلية.

ورغم أن المشهد يبدو سهلًا في يد الزبيدي من حيث القوة العسكرية والتحكم بالميدان، فإن التحدي الحقيقي يكمن في إحداث نقلة نوعية في الشراكة الداخلية وتصحيح الأخطاء التي رافقت عمل المجلس خلال السنوات الثلاث الماضية. فقد حاولت القوى المناوئة استغلال التباين المناطقي لإحداث انقسام سياسي جنوبي، غير أن الوعي الشعبي ظلّ حائط صد صلبًا أمام تلك المحاولات، حماية للمجتمع قبل المجلس نفسه.

هكذا يبدو المشهد أكثر وضوحًا من أي وقت مضى؛ فالمكاسب العسكرية التي حققها المجلس الانتقالي الجنوبي في وادي وصحراء حضرموت والمهرة لم تعد مجرد تقدم ميداني، بل تحوّلت إلى منصة سياسية يمكن البناء عليها لفتح الباب أمام شخصيات جنوبية محورية طالما وقفت على الحياد، بحجة غياب القرارات الحاسمة التي تثبت قدرة المجلس على إدارة الأرض وتأمينها. لقد كانت الأزمات المعيشية والاقتصادية خلال الأعوام الثلاثة الماضية عبئًا ثقيلًا على الزبيدي، وزادت عليها التزامات الشراكة السياسية المرهِقة التي فرضت عليه إدارة مشهد معقد دون امتلاك القرار التنفيذي الكامل.

لكن، وبمجرد أن حُسم القرار العسكري لصالح المجلس واستُعيدت السيطرة على الأرض، فإن القرارات الوطنية والاقتصادية باتت “قاب قوسين أو أدنى”، وفي مقدمتها إعادة تصدير النفط وتحرير ميناء الضبة من القيود التي فرضتها الضربات الحوثية قبل ثلاثة أعوام. تلك الخطوة ستكون أولى نتائج العملية العسكرية، وستنعكس مباشرة على تنشيط الدورة الاقتصادية وإنعاش الحياة المعيشية للسكان، الذين دفعوا فاتورة باهظة خلال سنوات الحرب والتجريف.

تحقيق هذه النقلة سيضع المجلس أمام مرحلة أكثر أهمية: نقلة من إدارة الأزمة إلى صناعة الدولة. فالتنمية الاقتصادية ستمنحه القدرة على تثبيت هيكل السلطة، وفتح الطريق نحو “تحقيق الاستقلال” عبر تفاهمات هادئة مع الإقليم والعالم، خصوصًا بعد أن قدّم المجلس ما عليه من التزامات وحافظ على علاقات متوازنة مع الجيران والأصدقاء. وبذلك يعود الجنوب إلى السياسة لا بوصفه طرفًا مرهَقًا، بل بوصفه مشروع دولة يملك الأرض والإرادة والقرار.