صالح أبوعوذل يكتب:
صراع العقارب.. خطابات متطرفة ومناورات يائسة عشية غياب الولي الفقيه
في الوقت الذي يكافح فيه النظام الإيراني أسوأ أزماته الداخلية والخارجية، تتصاعد حدّة الصراع بين أجنحة السلطة، كاشفةً عن التصدعات العميقة التي تهدّد هيكل "الجمهورية الإسلامية" من الداخل. إن الخطابات المتشددة والمناورات السياسية التي شهدتها طهران مؤخراً، وخاصة خلال إحياء ذكرى الاستيلاء على السفارة الأميركية في الرابع من نوفمبر، ليست مؤشراً على القوة، بل هي أعراض واضحة لـ"حرب الذئاب" المشتعلة، التي يؤججها الغموض المحيط بالوضع الصحي للمرشد الأعلى علي خامنئي.
ففي يوم واحد، ومن على منصات مختلفة، أطلق كبار مسؤولي النظام تصريحات تكشف حالة الذعر والتخبّط التي تعيشها النخبة الحاكمة. رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف ألقى خطاباً في طهران حاول فيه إعادة إحياء العداء لأميركا كأساس أيديولوجي للنظام، زاعماً أن "البعض يتصوّر أن عداء أميركا لنا بدأ من هذه السفارة، لكن هذه خدعة تاريخية كبرى". وفي محاولة لتبرير شعار "الموت لأميركا"، الذي بات مرفوضاً من قِبل قطاعات واسعة من الشعب الإيراني، وصفه بأنه "موت للهيمنة وليس للشعوب"، معتبراً إياه موقفاً "عقلانياً". إن لجوء قاليباف إلى هذه اللغة المتطرفة يعكس محاولة يائسة لإعادة توحيد الصفوف المتآكلة للنظام حول عدو خارجي، وصرف الانتباه عن الفشل الذريع في إدارة البلاد والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة.
وعلى المنوال نفسه، وفي جلسة للبرلمان، حذّر علي نيكزاد، الذي كان يرأس الجلسة، من أي "تصريح مثير للفرقة"، معتبراً إياه "إكمالاً لأحجية الأعداء". هذا التحذير، الذي يأتي من داخل المؤسسة التشريعية، هو في حقيقته اعتراف صريح بوجود انقسامات حادة وصراعات مريرة داخل أروقة السلطة. إن الدعوات المتكررة إلى "الوحدة المقدسة" ليست سوى دليل على غياب هذه الوحدة، وأن الخلافات وصلت إلى نقطة لم يعد بالإمكان إخفاؤها. إن دفاع نيكزاد المستميت عن منطقية احتلال السفارة عام 1979، وتأكيده على أن العداء مع أميركا "لن يُحل بالمفاوضات"، يمثل تمسكاً بخطاب أيديولوجي تجاوزه الزمن، ولم يعد قادراً على إقناع جيل شاب يطمح إلى الانفتاح والتواصل مع العالم.
لكن المظهر الأكثر خطورة لهذا الصراع الداخلي تجلّى في المناورة التي قام بها 63 نائباً في البرلمان، حيث قدموا تذكرة رسمية للرئيس مسعود بزشكيان مطالبين إياه بوضع خطة لـ"إغلاق مضيق هرمز". هذا التهديد، الذي لوّح به المتشددون مراراً، لم يعد مجرد ورقة ضغط خارجي، بل أصبح سلاحاً في حرب السلطة الداخلية. فقد سارعت صحيفة "شرق" الحكومية إلى التحذير من أن هذه الخطوة ستكون بمثابة انتحار اقتصادي، إذ ستخنق الاقتصاد الإيراني قبل أن تضر بأي طرف آخر، من خلال رفع تكاليف التأمين والشحن وتأخير استيراد السلع الأساسية.
هنا تتضح صورة الصراع بجلاء: فصيل متشدد في البرلمان يسعى لتأكيد ولائه الثوري وتوريط حكومة بزشكيان في مواجهة كارثية، وفصيل آخر يدرك العواقب المدمّرة لمثل هذه المغامرات على الاقتصاد المنهار أصلاً ومعيشة المواطنين. إن التلويح بإغلاق شريان الطاقة العالمي ليس استعراضاً للقوة، بل مؤشر على درجة اليأس التي وصل إليها بعض أقطاب النظام، الذين باتوا على استعداد للمقامرة بمستقبل البلاد بأكملها من أجل تحقيق مكاسب فئوية ضيقة في صراعهم على النفوذ.
ولا يمكن فصل هذه التطورات المتسارعة عن العامل الأهم الذي يحرك "حرب الذئاب" هذه: أزمة خلافة خامنئي الوشيكة. فالتقارير والشائعات المتزايدة حول تدهور صحته أطلقت سباقاً محموماً بين الطامحين لوراثة عرشه. كل فصيل يسعى الآن لإثبات أنه الأكثر تشدداً والأكثر ولاءً لـ"مبادئ الثورة"، أملاً في أن يضمن له ذلك موقعاً متقدماً في الترتيبات الجديدة للسلطة بعد غياب الولي الفقيه. قاليباف، بصفته رئيس البرلمان وأحد الطامحين الدائمين للرئاسة، يدرك أن الخطاب المتطرف هو العملة الرائجة في هذا السباق، وكذلك يفعل نواب البرلمان الذين يطالبون بمواجهات عسكرية غير محسوبة. إنها ليست سياسة خارجية، بل حملات انتخابية مبكرة لخلافة لم تُعلن بعد.
في المحصّلة، يجد النظام الإيراني نفسه في حلقة مفرغة من التدمير الذاتي. فالأدوات الأيديولوجية القديمة، مثل معاداة أميركا والتهديدات الخارجية، فقدت قدرتها على حشد الدعم أو إخفاء الفشل. والصراع الداخلي المحموم، الذي كشفته تصريحات المسؤولين أنفسهم، يشلّ قدرة النظام على اتخاذ قرارات عقلانية ويدفعه نحو حافة الهاوية. إن "حرب الذئاب" المشتعلة داخل أروقة السلطة في طهران، بالتزامن مع حالة الغليان الشعبي ورفض الأجيال الجديدة لواقعها، تنذر بأن النظام يدخل مرحلته الأخيرة والأكثر خطورة، حيث قد تكون نهايته على يد صراعاته الداخلية قبل أي ضغط خارجي.
* نقلا عن ميدل ايست اونلاين


