عبدالرزاق الزرزور يكتب لـ(اليوم الثامن):
إفراغ الدولة من الداخل: كيف تآكلت مؤسسات الحكم في إيران؟
لم تعد الخلافاتُ العاصفةُ داخل أروقة البرلمان الإيراني مجرد تنافسٍ سياسي طبيعي، بل استحالت صراعاتٍ فئوية مكشوفة تعكسُ بوضوحٍ تفكك البنية العميقة للنظام. ما يشهده "المجلس" اليوم ليس نقاشاً حول تشريعاتٍ وطنية أو سياساتٍ عامة، بل هي معاركُ نفوذٍ طاحنة بين تياراتٍ تنتمي جميعها إلى "العباءة" ذاتها؛ تياراتٌ تتنازعُ على إدارة الانهيار لا على كبحه. هكذا يتحول البرلمان من مؤسسةٍ تشريعية إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات في نظامٍ يغرق في أزماته الوجودية.
هواجسُ "الولي الفقيه" وإفراغُ المؤسسات
يكشف هذا المشهد بوضوح حدود الدور البرلماني في ظل الهيمنة المطلقة لمؤسسة "الولي الفقيه"؛ فالقرارات الاستراتيجية والمصيرية تُطبخ في غرفٍ مغلقة خارج قبة البرلمان، بينما يُترك للنواب هامشٌ ضيق للمناورة الشكلية. ومع انسداد القنوات المؤسسية الفاعلة، تنفجر التناقضات داخل الأطر الهامشية، مما يجعل الصراع أكثر حدةً وضجيجاً، لكنه أقل تأثيراً في صنع السياسات. إن البرلمان هنا ليس مركزاً للقرار، بل واجهةٌ ديكورية لصراعٍ محتدم يدور خلف الكواليس.
الأزمةُ المعيشية كوقودٍ للصراع
تتغذى الصراعات الجناحية من رحم أزمةٍ معيشية غير مسبوقة تفتك بالمجتمع الإيراني: تضخمٌ جامح، وتهاوٍ متسارع للعملة الوطنية، وارتفاعٌ جنوني في أسعار الغذاء والطاقة، وانسحاقٌ تام للطبقة الوسطى. وأمام عجز النظام عن تقديم حلولٍ بنيوية، تلجأ الأجنحة المتصارعة إلى تقاذف المسؤوليات، في محاولةٍ يائسة لتبرئة الذات أمام شارعٍ محتقن. لقد تحولت الأزمة إلى كرة لهب يتبادلها المتنافسون للنجاة داخل منظومةٍ تغرقُ بكاملها، غير أن جوهر المأزق يكمن في سياساتٍ اقتصادية مؤدلجة تُدار لخدمة شبكات السلطة لا لرفاه المجتمع.
اقتصادُ الريع وتجذّر الفساد المؤسسي
ليست الأزمة الاقتصادية مجرد نتاجِ عوامل خارجية، بل هي الثمرة المرة لنموذجٍ اقتصادي ريعي يقوم على الفساد الممنهج، واحتكار الموارد، ورهن مقدرات البلاد للمؤسستين الأمنية والعسكرية. الصراع البرلماني لا يستهدف إصلاح هذا النموذج، بل يدور حول "من" يديره و"من" يستأثر بما تبقى من غنائمه. هنا تتجلى الحقيقة العارية: الصراع ليس إصلاحياً، بل هو تزاحمٌ على الفتات في اقتصادٍ منهك.
العقوباتُ كذريعةٍ لشرعنة الفشل
ما ينفك النظام يتذرع بالعقوبات الدولية لتبرير إخفاقاته، غير أن الواقع يؤكد أن هذه العقوبات لم تخلق الأزمة من العدم، بل عرت اختلالاتٍ بنيوية كامنة منذ عقود. فلو كانت المؤسسات فاعلة والسياسات رشيدة، لما تحولت العقوبات إلى كارثةٍ شاملة. الصراع البرلماني يتجاهل هذا الجوهر، ويكتفي بتوظيف "شماعة" العقوبات في خطابٍ تعبوي يفتقر لأدنى درجات المصداقية.
انسدادُ الإصلاح وسقوطُ الأوهام
تؤكد الصراعات الحالية حقيقة "انسداد الأفق" أمام أي مسارٍ إصلاحي من داخل النظام. فجميع الأطراف المتناحرة هي أجزاء أصيلة من المنظومة ذاتها، تتوافق استراتيجياً على تعطيل أي مساءلةٍ حقيقية، وعلى حماية جهاز القمع بوصفه الضامن الأخير لبقائها السياسي. ومع التراجع التاريخي للمشاركة الشعبية، فقد البرلمان شرعيته الاجتماعية، وباتت صراعاته شأناً داخلياً معزولاً عن نبض الشارع وهمومه.
الشارعُ الإيراني.. القطيعةُ الكاملة
في المقابل، يقف الشارع الإيراني كلياً خارج هذه الحسابات "النخبوية". فالاحتجاجات المتكررة تعبّر عن قطيعةٍ وجودية بين المجتمع ومؤسسات الحكم. وبينما يغرق البرلمان في نزاعاته الصبيانية، يبدو عاجزاً عن قراءة التحولات العميقة في وعي الجماهير، مما يرفع وتيرة الاحتمالات لانفجارٍ اجتماعي وشيك في ظل غياب أي قنوات تمثيلٍ حقيقية.
وحداتُ المقاومة وتعميقُ المأزق الوجودي
في الخلاصة، تكشف هذه الصراعات عن نظامٍ يستهلك نفسه من الداخل، فبدلاً من إدارة الأزمات، ينشغل بتوزيع الخسائر بين أجنحته. ولم تعد هذه الصراعات الحادة بمعزلٍ عن تصاعد أنشطة المقاومة الإيرانية وعمليات «وحدات المقاومة» التي باتت تقض مضاجع النظام في مختلف المدن. لقد وضعت هذه التحركات الميدانية النظام تحت ضغطٍ أمني وسياسي مستدام، وعمقت حالة الذعر داخل مؤسساته. ومع شعور أجنحة الحكم بأن شبح السقوط يدنو أكثر فأكثر، تتحول خلافاتهم إلى صراعاتٍ وجودية تعكس الخوف من انهيارٍ لم يعد مستبعداً.


