أحمد شهاب يكتب:

عودة الأصنام: الخط الرفيع بين الإعجاب بالقادة والهوس

تسعى كل جهة دينية أو سياسية لبناء قاعدة جماهيرية داعمة من خلال حشد مختلف فئات المجتمع، بدءا من النخبة المؤثرة مرورًا بعامة الناس. وتبرز في هذا السياق أهمية دور “البطانة” المحيطة بالحاكم أو الزعيم، والتي تضطلع بمهام تقديم النصح والمشورة وتوجيه الرأي.

ومع اتساع نطاق هذه الفئة، توسعت أدوارها تدريجيا، فتبدلت من نخبة محدودة إلى جيش عريض من الأتباع المجندين في خدمة الزعماء السياسيين أو الدينيين. وتحول دورهم من تقديم المشورة إلى الدفاع عن الزعماء، ونشر مكارمهم، ومهاجمة خصومهم.

حتى مع التقدم التكنولوجي الهائل، فإن نوعية هذه الشريحة لم تتغير، فهي لا تزال تضمّ سياسيين وعلماء دين وأصحاب شهادات عليا، لكن عقولهم لا تزال عالقة في العصور الوسطى، ومهمتهم في الحياة التسويق للآخرين، حيث تستخدم المنصات الذكية في تسويق أفكار غبية.

وساعد ذلك في تنامي ظاهرتين:

الأولى، توسع مفهوم الزعامة: إذ لم تقتصر الزعامة على قادة الدول فقط، بل شملت أيضا قادة الجماعات، وشيوخ الفرق، وأئمة المساجد، وزعماء الفصائل والهيئات والنقابات وغيرها.

والثانية، كثرة الأبواق: إذ لم يقتصر مفهوم الأتباع على الأفراد المعينين بأجر لمهام التسويق، وإنما شمل أيضا المتطوعين والحزبيين والمحبين والمطبلين.

مجرد إظهار التعظيم والتبجيل المفرط كان مرفوضا عند سادة الخلق، إيمانا راسخا منهم بأن العبادة خالصة لله وحده، لا لغيره، ولا ينبغي تأليه أي بشر، مهما بلغ شأنه، ولا ينبغي أن يتكلف الإنسان في تصرفاته معهم.

أفرز هذا التحول أيضا سلوكا سلبيا تمثل في التعلق الشكلي بالشخصيات، والانبهار بالزعماء، بحيث يهمل الفرد واجباته اليومية لكنه لا يهمل إرسال مسجات يومية لتبجيل الزعيم، أو التنقل في المجالس للدفاع عنه، بل وصل الأمر إلى حد الخلط بين خدمة القادة ورضا الله جل شأنه.

هذه الحالة لم نشاهد مثيلا لها حتى في عصر الأنبياء وأئمة الإسلام والتابعين، بل على العكس من ذلك، حثّ القادة الربّانيون الأفراد على عدم الانشغال بخدمتهم خاصة رغم مكانتهم الرفيعة، فكل فرد مسؤول عن إدارة شؤونه.

وينقل قول الإمام علي بن أبي طالب لقادة وتجار الأنبار لما ساروا معه خطوات لتوديعه وهو متجه إلى الشام: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا. فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم.

بل إن مجرد إظهار التعظيم والتبجيل المفرط كان مرفوضا عند سادة الخلق، إيمانا راسخا منهم بأن العبادة خالصة لله وحده، لا لغيره، ولا ينبغي تأليه أي بشر، مهما بلغ شأنه، ولا ينبغي أن يتكلف الإنسان في تصرفاته معهم.

وفي حادثة شهيرة، انكب سلمان على قدم النبي يقبلها، فنهره النبي وقال له: لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد الله آكل مما يأكل العبد، وأقعد كما يقعد العبد.

يقول أنس بن مالك: لم يكن شخص أكرم على الله من رسول الله: كنا إذا رأيناه لم نقم له لما نعلم من كراهته ذلك، وهو عليه الصلاة والسلام القائل “من سره إذا رأته الرجال مقبلا أن يمثلوا له قياما فليتبوأ بيتا في النار”. وفي مورد آخر قال “لعن الله عز وجل من قامت له العبيد صفوفا”.

إنّ انزلاق العلاقة بين الأفراد وقادتهم من مسار الاحترام المتبادل والخدمة المشتركة والتكافؤ الاجتماعي إلى هاوية السخرة والاستغلال والتذلل، يُعدّ ظاهرة شاذة لا ينبغي السكوت عنها أو إهمالها، إذ تنتج عنها آفات خطيرة أبسطها صعود القادة على أكتاف الناس.