هيثم الزبيدي يكتب:

ثرثرة مسيرات وصواريخ إيرانية في سماء الشرق الأوسط

من أفضل المصطلحات الدبلوماسية التي تلجأ إليها الدول للاعتراف بعدم قدرتها على المواجهة التامة أو الجزئية مع عدو صاحب إمكانات أكبر هو “الاحتفاظ بحق الرد”. منذ سنوات يكرر السوريون هذا القول مع كل غارة إسرائيلية على أراضيهم تستهدف، من بين ما تستهدف، المعدات العسكرية الإيرانية المخصصة لاستخدام محتمل من قبل الحرس الثوري المتواجد على الأراضي السورية أو في طريقها إلى حزب الله في لبنان. إيران نفسها استفادت من “الاحتفاظ بحق الرد”، باعتبار أن الأهداف التي تتم مهاجمتها هي أهداف عسكرية سورية “تصادف” وجود مستشارين إيرانيين فيها.

في أجواء التصعيد في المنطقة بسبب حرب غزة، قررت إسرائيل تصفية الجنرال محمد رضا زاهدي وهو القائد المكافئ لقاسم سليماني الذي أوكلت له مهمة تنسيق استهداف إسرائيل من سوريا ولبنان. سليماني كان رجل إيران الأول في العراق وشمال الجزيرة السورية، بينما تركت مهمة الساحل السوري والإطلالة الإيرانية على الجولان وتوجيه وتسليح حزب الله لزاهدي. ردت إيران في حينها على استهداف الولايات المتحدة لسليماني باستعراض قوة ضعيف من خلال توجيه ضربات محدودة بصواريخ سكود لقاعدة أميركية في العراق بنتائج متواضعة لا تتعدى ارتجاجات في الرأس لبعض الجنود الأميركيين. لم تتعلم طهران من خطأ كشف حدود قدرتها، فأقدمت على حشد المئات من مسيراتها وصواريخها البالستية وصواريخ كروز، وأعدّت على مدى أسبوعين لهجوم الرد على تصفية زاهدي. الرد الإيراني، رغم كل إبهاره البصري، كان أقل تأثيرا حتى من هجمات صاروخية لحماس وحزب الله على إسرائيل. ضيعت إيران فرصة الاحتفاظ بأوراقها، مثل أي لاعب بوكر يتعمد الإيهام بدلا من كشف الأوراق، وأقدمت على الرد. كان الأجدر بها أن تلجأ إلى المصطلح الدبلوماسي الفريد من نوعه: الاحتفاظ بحق الرد.

ثمة معطيات عسكرية وتنظيمية وجغرافية كثيرة ساعدت على إيهام إيران بأن قدراتها توفر لها إمكانية الرد. تمكنت بعض الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي زودت بها طهران الحوثيين، من اختراق الدفاعات جنوب السعودية. ثم زادت جرأة الإيرانيين ووكلائهم عندما نجحوا في توجيه ضربة مذهلة لمنشآت أرامكو النفطية عام 2019. كانت القراءة الإيرانية لهذا الهجوم تحديدا هي أن الولايات المتحدة لم ترد لأسباب عملياتية، أي أنها لا تمتلك السلاح المناسب، في حين أن الحقيقة هي أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كانت تمارس لعبة سياسية مع السعودية والخليج. ومن غير الواضح لماذا لم تتمكن -أو حتى تحاول- الدفاعات الأرضية السعودية من التصدي للمسيرات وصواريخ كروز المهاجمة.

زاد الوهم الإيراني بما تراه من نجاحات روسية في أوكرانيا. تمكنت المسيرات الإيرانية بأيدٍ روسية من تسجيل نجاحات كبيرة في ضرب الأهداف الأوكرانية. في هجوم الأمس، مرت مسيرات إيرانية فوق مدن عراقية في طريقها إلى أهداف إسرائيلية والتقطتها عدسات الكاميرات، وكانت المسيرات من نفس فئة “شاهد” التي تستخدم في مهاجمة أوكرانيا. الافتراض الإيراني أن هذه المسيرات نجحت في أوروبا، فلماذا لا تنجح في الشرق الأوسط؟ فاتت الإيرانيين طبيعة الجغرافيا مترامية الأطراف لأوكرانيا ما يعقد مهمة الدفاع الجوي هناك مقارنة ببلد مثل إسرائيل محدود المساحة وعلى بعد أكثر من ألف كيلومتر من أقرب حدود إيران إليه، وأن المسيرات وصواريخ كروز مرغمة على المرور بأجواء بلدين على الأقل وربما ثلاثة، هي العراق والأردن وسوريا، قبل أن تدخل المجال الجوي الإسرائيلي.

ثم لدينا أمثلة تاريخية مشابهة لطبيعة التصدي لكل أنواع الأسلحة التي استخدمتها إيران. ففي مرحلة متأخرة من الحرب العالمية الثانية، ابتكر الألمان نوعين من الصواريخ. الأول هو صواريخ كروز في – 1، التي تحلق مثل الطائرة ثم تنقض على أهدافها. والثاني هو صواريخ في – 2 البالستية، التي تطلق إلى ارتفاعات شاهقة ثم تعود لدخول الأجواء بأشبه ما يكون لعودة رحلة من الفضاء. استخدم الألمان صواريخ كروز في – 1، لكن البريطانيين تصدوا لها بكمائن جوية من مقاتلات تمكنت من إسقاط العديد منها. واستلزم أمر التصدي للصواريخ البالستية من أشباه في – 2 عقودا لنصل إلى حرب تحرير الكويت عام 1991، ولتتمكن صواريخ باتريوت من التصدي لصواريخ سكود (وهي النسخة المتطورة والشبيهة بالصواريخ الألمانية).

ما حدث بالأمس هو خليط من الاثنين. إذ قامت المقاتلات الأميركية والبريطانية والأردنية، وبالتأكيد الإسرائيلية، بالتجوال في كمائن جوية بهدف إسقاط صواريخ كروز البطيئة نسبيا، بينما تولت صواريخ “القبة الحديدية” الإسرائيلية وباتريوت الأميركية إسقاط الصواريخ البالستية. أما مسيرات “شاهد” الانتحارية، فهي بطيئة وتعتمد على أسلوب الإغراق في إطلاقها، ما يجعل مهمة مواجهتها عسيرة بحكم العدد وليس القدرات. وحتى هذه، بتوفر حاملتي طائرات أميركيتين بعشرات من الطائرات المقاتلة المتطورة، وعدد إضافي من الطائرات البريطانية القادمة من قبرص وطائرات أردنية تدافع عن أجواء البلاد، بالإضافة إلى كل التحسينات التي أدخلتها إسرائيل على صواريخ “القبة الحديدية” للتصدي للصواريخ الصغيرة التي تطلقها حماس من غزة أو المقذوفات والمسيرات التي يطلقها حزب الله، كان تحييد المسيرات مسألة شبه محسومة، مهما بلغ عددها. وفي كل الأحوال، فإن كل الأسلحة الإيرانية كانت مكشوفة منذ لحظة إطلاقها، وتوفر للإسرائيليين والأميركيين وحلفائهما ما يكفي من الوقت للرصد والتصدي.

يمكن القول إن الأسلحة الإيرانية الحالية صالحة لتهديد الخليج بحكم الجغرافيا، ولكنها بوضعها الحالي عاجزة عن توجيه ضربة مؤذية لإسرائيل. لو كانت إيران متأكدة من أن مغامرتها بالرد تستحق المجازفة بوكيل من عيار حزب الله، لكان الحزب بإمكانياته الصاروخية وقربه الجغرافي، هو الأداة الأفضل للرد. وكما ذكرنا في مقالة الأسبوع الماضي، فإن دم زاهدي لا يستحق التضحية بحزب الله وبنفوذه في لبنان. بين سوء التقدير العملياتي والفجوة في القدرات المتاحة، وعدم الارتياح من زج حزب الله في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، بل والولايات المتحدة والغرب، شاهدنا عرضا عسكريا وسياسيا هزيلا، كان الأفضل منه هو الاستمرار بالتلويح بالرد والحق في الرد.

هذا لا يعني أن الخطر الإيراني يمكن الاستهانة به. إيران تدرك الآن، أكثر من أمس والأسبوع السابق، أن وكلاءها وميليشياتها المنتشرة في الشرق الأوسط هم السلاح الأهم في فرض النفوذ والتخويف، بل والإيهام النفسي والإعلامي لشعوب المنطقة بأن إيران وحلفاءها هم من يتصدى للإسرائيليين ومن ينتقم للفلسطينيين في غزة.

اليوم سيُثار الكثير من اللغط في المنطقة عن “مسرحية” إيرانية – أميركية – إسرائيلية تم الإعداد لها، أو عن تصدٍ “بطولي” من إيران لإسرائيل، أو عن جولة أولى في أول مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل بعد أكثر من 40 سنة من الثرثرة من على منابر حسينيات ومساجد طهران عن الطريق إلى القدس الذي يمر بكربلاء. الحقيقة المؤكدة الوحيدة هي أن إيران تتحكم في المنطقة بسلاح ميليشياتها وبأدواتها الدعائية والإعلامية والتبشيرية المذهبية، وليس بصواريخ بالستية أو صواريخ كروز أو مسيّرات. ما شهدناه هو ثرثرة مسيّرات وصواريخ لا تختلف في تأثيرها على إسرائيل عن ثرثرة التهديدات اللفظية الجارية منذ أربعة عقود.