فاضل المناصفة يكتب:

لماذا انزعجت برلين من تصريحات أبومازن؟

انشغلت الساحة السياسة في فلسطين الأسبوع الماضي بزيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى برلين وما تلاها من ردود أفعال على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة مع إعلان الشرطة الألمانية عن فتح تحقيق في احتمال تحريض أبومازن على الكراهية بعد شكوى جنائية رسمية، جاءت على خلفية استعمال الرئيس الفلسطيني لمصطلح الهولوكوست في تصريحه أمام المستشار الألماني أولاف شولتس، هذا الأخير الذي اعتبر ما جاء على لسان أبومازن مثيرا للاشمئزاز، في حين أن الموقف الألماني تجاه القضية الفلسطينية ومعاناة اللاجئين وقيام دولة فلسطين هو من يستحق وصفه بذلك الوصف.

اللافت للانتباه أن الموقف الرسمي الألماني تجاوز دعوات محمود عباس للطرف الإسرائيلي إلى السلام، والأمن، والاستقرار، والتي تعبر عن رغبة واضحة من السلطة الفلسطينية في إيجاد حل سلمي ينهي أشكال العنف والتصعيد، ولكنه انزعج انزعاجا شديدا من توظيف كلمة الهولوكوست في توصيف ما جرى وما يجري في حق الفلسطينيين.

هذا ما يدفع بنا إلى طرح تساؤلات منطقية: على أيّ أساس تفتح الشرطة الألمانية تحقيقا حول تصريحات محمود عباس، إذا كانت المادة 130 من القانون الجنائي الألماني تشير إلى إدانة من ينكر الهولوكوست لا من يؤكد على ضرورة إدانته كما فعل أبومازن؟ وهل يرى الموقف الرسمي في ألمانيا أن ما يحدث في فلسطين لا يرتقي إلى وصف أبومازن؟ أم أن ردة الفعل الألمانية وراءها شيء آخر لا علاقة له بالملف الفلسطيني وتصريح أبومازن في حد ذاته؟

يتعامل القضاء الألماني مع المسائل المتعلقة بإنكار الهولوكوست أو تمجيده، بحساسية عالية، ويشدد القانون الجنائي على ضرورة تطبيق أقصى العقوبات الصارمة في حق من يبدي تحمسا لإحياء النازية حتى وإن كان ذلك من خلال الإشارة عبر رسومات أو إيحاءات أو مساندة جمعية غير مرخص لها تتبنى أفكارا عنصرية تشجع على عودة النازية.

ومع ازدياد شعبية اليمين المتطرف في أوروبا مؤخراً لأسباب من أبرزها تدفق الآلاف من اللاجئين إليها، وتزايد خطر تصاعد معاداة السامية وإنكار الهولوكوست في الفضاء الأوروبي بتأكيد من رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، الذي عبّر عن تنامي الخطر الذي يتعرض له اليهود، هنا تتوجس ألمانيا من أن يتم توظيف ما جاء في خطاب أبومازن من طرف اليمين المتطرف لإبراز ازدواجية المعايير التي تعتمدها الحكومات في ألمانيا وأوروبا تجاه ملف فلسطين، الأمر الذي بإمكانه أن  يروج لبروباغندا عداء ضد اليهود بقاسم مشترك بين المتطرفين الإسلاميين والنازيين، وهو ما يزيد احتمالية وقوع عمليات إرهابية تبرر العنف بحجة الانتقام.

هناك سبب آخر للتهويل الألماني الذي صاحب تصريحات أبومازن، وهو وجود أطراف محسوبة على إسرائيل تسعى لتقليص الدور الألماني في المساعدات المقدمة إلى الشعب الفلسطيني، إلى غزة تحديدا، خاصة وأن ألمانيا تعد من أكبر المانحين للفلسطينيين، حيث بلغ إجمالي المبلغ المخصص من الخارجية الألمانية للفلسطينيين حوالي 94 مليون يورو، وهذا التقليص سيترتب عنه تشديد الخناق على عائدات السلطة ودور المؤسسات الأممية التي تستفيد من الإعانات لتخفف من وطأة الحصار على غزة.

وربما تكون ألمانيا في حد ذاتها تبحث عن الخلاص من الأعباء المالية المترتبة عن دعم الفلسطينيين، خاصة مع الأزمة الاقتصادية التي تشهدها، وبالتالي فهي في حاجة إلى ذريعة تدفع من خلالها إلى مراجعة مساعداتها إلى الفلسطينيين ومستغلة للموجة الإعلامية المصاحبة لزيارة محمود عباس وتصريحاته للدفع بالعلاقات مع السلطة إلى مرحلة الجفاء.

وعلى أي حال فإن الموقف الرسمي الألماني من القضية الفلسطينية ومن تصريح أبومازن لا يقدم ولا يؤخر شيئا، ما دامت برلين تصر على عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتحذو حذو نظيراتها من العواصم الأوروبية في تجاهل حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.

والواضح أن صراحة عباس قد أزعجت الغرب بقدر ما أزعجت ألمانيا، ذلك لأنها دليل إدانة على ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية، والسكوت عن الجرائم على حسب السياسات التي تخدم مصالحه.

وحتى وان كانت ردة الفعل الألمانية ستدفع بدول أخرى إلى معاتبة أبومازن على صراحته وتجنب استقباله أو تقليص المساعدات الاقتصادية لرام الله، إلا أنها نجحت في توحيد رد الفعل الفلسطيني في الذود عن قضيته، حيث شكل الفلسطينيون على اختلافاتهم موقفا داعما لأبومازن ورافضا لرد فعل برلين، كما أنصفت الرئيس الذي لطالما تعرض إلى حملات تشويه تسيء لتاريخه النضالي ودفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني وعن قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس، في زمن تتزايد فيه الضغوط على فلسطين ويتخلى فيه العرب عن قضيتهم الأساسية.