هيثم الزبيدي يكتب:

مع الحر والجفاف نحن كائنات مسائية

لندن

وأنا أقوم بممارسة رياضة المشي اليومي مساء بعد انتهاء العمل، اِلْتقطّ بهاتفي صورة لمنطقة عشبية أمرّ عليها دائما. لونها المعتاد هو الأخضر. الأعشاب غير كثيفة بسبب كثرة الأشجار العملاقة في الحي، إذ تمنع تسلّل الشمس إلى العشب. خضرة جميلة تلون أرضية الحي الذي هو أشبه بغابة.

الصورة التي اِلْتقطّها لا تتطابق مع هذا الوصف. تلك الأعشاب اصفرّت وأصبحت تبْنًا. المساحات الخضراء المحيطة التي جعلت بلدية المنطقة تسمي الحي “قرية”، أصبحت صفراء. أهل الحي فخورون بتسميته قرية رغم أنه من أحياء لندن. القيود الصارمة المفروضة من قبل إدارة الحي أبقت عليه واحة خضراء بأتمّ معنى الكلمة. لعل من حُسن حظ تلك المساحات المعشوشبة أن الحي قليل السكان، وأن لا أحد يمشي على العشب أخضرَ كان أم يابسا. لو اجتمع مرور المارة والجفاف على هذا العشب، لكانت النتيجة كارثية. الآن كلنا أمل في أن تحتفظ جذور تلك الأعشاب برمق حياة تستعيدها مع عودة الأمطار.

جفاف هذا العام في أوروبا استثنائي. لم يعد الأمر يصنف على أنه موسم تراجع تساقط الأمطار. هذا قيظ شرق أوسطي بلا قطرة ماء. تمشي في الشوارع وعلى الرصيف، فتعود وحذاؤك الرياضي الأسود مغبرّ تماما. لا أذكر أبدا أن هذا ما كان يحدث. تعود وحذاؤك مبتلّ إذا اشتد المطر أو مُطيّن إذا قررت السير في الغابة المجاورة. لكن أن يكون مغبرّا فهذا ما لم نعتد عليه سابقا.

الحر، ومعه الجفاف، جعلا مزاج الأوروبيين مختلفًا. في أول أسابيع الصيف، كان الجميع يهرعون إلى الساحات العامة استمتاعا بالشمس والحرارة. الآن، تمر على المنتزهات فتراها فارغة بسبب الحر والعشب الجاف. البعض اختار الخروج بعد أن تخف شدة حرارة الشمس. ومثلما لا يذهب أحد إلى منتزه الزوراء وسط بغداد في نهارات موسم الصيف، فإن الغربيين تعلموا “حيلة” جديدة: أن يكونوا كائنات مسائية. صارت الأسر تفترش الأرض وتحاول البقاء لأطول وقت ممكن في الأماكن المفتوحة بحثا عن برودة في مواجهة الحر. ربما كان الأوروبيون من جنوب القارة المطل على البحر المتوسط أكثر تأقلما مع ما يحدث في هذا الموسم العجيب، لكن الكل يتعلم من التجربة بسرعة. إنها حياة صيفية بمواصفات مختلفة. وقريبا، إذا صدق علماء البيئة الذين أقرّوا بأن ما نشهده هذا العام هو مقدمة لما سنواجهه مستقبلا، ستتحرك أنماط الحياة في الغرب البارد لتحاكي أنماط الحياة في الشرق الساخن. أهلا ومرحبا بأجهزة التكييف.

لطالما وُصف الشرقيون بالكسالى والخاملين، وهو توصيف يُنعتون به خاصة في موسم الحر. أهالي شمال أفريقيا والشرق الأوسط كائنات ليلية تتحرك وتعيش بعد مغيب الشمس. هذا لأن علاقتهم بالحر والجفاف علاقة معهودة وتعلموا مفرداتها من مدرّس قاس لا يرحم: الطبيعة. الآن صارت الطبيعة تُلْحق الغربيين بالصفوف الأولى في مدرسة تغيرات المناخ.