هيثم الزبيدي يكتب:

بريكست من فوق الأساطيح

من أسوأ التعليقات التي تسمعها أن لا يوجد شيء مستحيل. إذا كنت دارسا في علوم الفيزياء أو الرياضيات، ستعرف كم مستحيلا هناك: عد ولا تقصر! في الحياة العادية ستجد أن الممكن هو النادر وأن غير الممكن هو الطبيعي. لو تفقّه أحدهم أمامك عن هزيمة المستحيل، فما عليك إلا أن تقف عند أي دكان قريب وتشتري عبوة لمعجون الأسنان. أعصرها لتستخرج بعضا من المعجون وأعطيه إياها واطلب منه أن يعيد معجون الأسنان داخل العبوة. سيتعلم المتفقه أن لا يجزم بما لا يعرف. سيحترم فكرة المستحيل.

اللاعقلانيون يحبون الخوض في مثل هذه الأمور. في العادة يتحدثون “من فوق الأساطيح” كما يصفهم السوريون. الذي ينظر من فوق السطح يصبح معلما يوجّه الآخرين ويحثهم على رفع أوزان أكبر من طاقتهم أو أن يتحركوا يمينا أو شمالا لإنجاز مهمة تبدو عسيرة أو مستحيلة. ما إن تطلب منه النزول من أعلى السطح إلى أرض الواقع، حتى تجده نادما أو متهربا. الواقعية ميزة تستحق النزول من على السطح. إنها درس مجاني للناس.

بودي أن أوزع الكثير من عبوات معجون الأسنان على السياسيين المعنيين ببريكست في بريطانيا. أن اطلب منهم أن يعيدوا معجون الأسنان إلى العبوة. سيتعلمون الكثير من هذه التجربة البسيطة. لعلهم يفقهون أن عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي هي ممارسة مشابهة وأن من الغباء أن يمر الخروج البريطاني العسير عبر رمي النفس من أعلى سطح البناية لإثبات أن الانتحار لديهم صار أفضل من الاعتراف بأن الخروج صعب وأن من المستحيل استعادة بريطانيا لـ”استقلالها” بالطريقة الساذجة التي يفكرون بها.

يوما بعد آخر يدرك العامة من البريطانيين استحالة المهمة التي يحاول الخاصة من الساسة في بريطانيا إنجازها. في لحظة غضب مال الناخب البريطاني إلى الخروج. لم يكن الميل كبيرا، ولكن هذا هو حال الديمقراطية. صوت واحد زيادة كان كافيا لترجيح الكفة.

تسلّم الساسة مهمة تنفيذ استفتاء الخروج (وهو لم يكن ملزما للحكومة أو للبرلمان بالمناسبة)، وأخذتهم الحماسة وصعدوا مع مؤيديهم إلى السطح وتركوا رئيسة الحكومة تيريزا ماي ومعها سلسلة لا تنقطع من الوزراء والخبراء المستبدلين بشكل شهري ليقوموا بإعادة معجون الأسنان إلى العبوة. وفي خضم ضوضاء اللوم والتهرب، اندفع البلد إلى حافة الكارثة السياسية والاقتصادية.

اليوم أمام الفشل في إيجاد الحل صار الاقتراح أشبه بضرب العبوة ومعجون الأسنان بمطرقة، لتختفي معالم المهمة الأصلية ومن ثم القول إن المهمة بالأصل لم تكن إعادة المعجون إلى داخل العبوة.