حامد الكيلاني يكتب:

بداية حرب التخوين بين عملاء النظام الإيراني في العراق

ما إن دخلت الوجبة الأولى من العقوبات الاقتصادية على نظام طهران حيز التنفيذ، وهي عقوبات دولية في شموليتها المتنامية، حتى بدت الأعراض المرضية في السياسة والاقتصاد والأمن جلية وواضحة في العراق.

بغداد من ضمن أربع عواصم عربية تقع تحت نفوذ وسيطرة إيران، حسب تصريحات الملالي، بل إن بغداد اختارتها مخيّلة حلمهم التوسعي عاصمة لإمبراطوريتهم بناء على المتغيرات الجوهرية بعد الاحتلال الأميركي ومحتوى التفاهمات في تسليم العراق إلى نظام ولاية الفقيه وعملائه، رغم أن الإدارات الأميركية المتعاقبة في البيت الأبيض على إطلاع بتاريخ العلاقة القريبة بين البلدين، وأيضاً على معرفة بحجم الألغام في بيئة وتركيبة المجتمع العراقي. ألغام بمعظمها مشخصة ومعلومة وكانت قبل الاحتلال مسيّجة كأرض حرام تمنع الدولة الاقتراب منها، ويتعرض من يتجاوز خطوطها إلى إدانة مجتمعية قبل إدانة القانون.

إيران بعد العقوبات، إما إنها ستسحب العراق إليها لتناور به في تدعيم اقتصادها وسد الثغرات في ردات فعل المواطن الإيراني، أو ستدفع بالعراق إلى هاوية مواجهات دموية وزعزعة بقايا استقراره ووحدته لتصنع منه ساعي بريد سريع التوصيل لرسائل تهديد ترتقي إلى الإرهاب تأكيداً منها على مخاطر الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في تحذير تضعه على طاولة دول الاتحاد الأوروبي، ومنها الدول الموقعة على الاتفاق لحثها على الإبقاء عليه وخرق العقوبات مستغلة “الحرب الضريبية والتجارية” وكذلك التلويح الجاد بإعادة تنشيط مفاعلاتها النووية، مع إطلاق خبر تجهيز إيران باليورانيوم المخصب من روسيا في إشارة لتسريع إنتاج أجهزة الطرد المركزي.

يبدو أننا نتجه بعجالة إلى مرحلة طوارئ إيرانية قصوى في العراق، ظواهرها استنفار الأحزاب والميليشيات الطائفية ضد رئيس الوزراء حيدر العبادي لإعلانه التزام العراق بالعقوبات رغم تعاطفه مع إيران وتعجيله بتحديد موعد فوري لزيارة طهران لتداول “القضايا الاقتصادية”.

الميليشيات في العراق تلاطمت أمواج مشاعرها وفاضت على منصات الخطابة والإعلام حد أنها صدحت بما يتعدى “بالروح بالدم نفديك يا إيران”، فديون عراق الميليشيات لولاية المرشد خامنئي لا يمكن إيفاؤها؛ لذلك كان التصعيد بعدم استقبال العبادي إيرانياً مع تأخير نتائج الانتخابات النهائية وتعثر تشكيل الكتلة الأكبر وقطع إمدادات الكهرباء والوقود من إيران وتصاعد الاحتجاجات. تضع الميليشيات وتحالفها السياسي قوة ردع لأي حكومة مقبلة يتوقع أن يقف من خلفها برلمان بمقاعد ميليشياوية وأصوات طائفية حد النخاع ساهمت مسبقاً في تدنيس وحدة العراق وطعنت بحرائره وتشفت بتدمير مدنه وتشريد أهله وإذلالهم.

ربما أخطأ المرشد ونظامه مع ميليشياته في العراق بالتهجم على أحد أبناء حزب الدعوة من المخلصين للملالي وولاية الفقيه، فالعبادي بقراره “المدروس” أدرى بأعضاء حزبه في الدعوة وتربصهم في دولة قانون نوري المالكي لولاية ثالثة لشخص المالكي أو لمن يرشحه أو لمن يدعمه من مرشحي الميليشيات، لكن يبدو أن رهان العبادي على تفاهماته مع المرشد أثناء زيارته الملغاة أو المؤجلة لطهران، قطعت عليه الطريق نحو فترة ثانية في التحكم بالعراق من أحد طرفي معادلة الاحتلال الأميركي الإيراني؛ رغم أن النظام في إيران كان يمكنه تقييم دور العبادي على ضوء مرحلة العقوبات كوسيط إيراني كامل الأهلية بقناع دولة عراقية مستقلة وذات سيادة تمارس دورها في المجتمع الدولي وتلتزم بالقرارات المؤثرة في كيانها.

القرار الإيراني اتجه أو يتجه إلى الاختيار الثاني في دفع العراق كلياً إلى أحضان الميليشيات التابعة لها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في مواجهة العقوبات، وتلك إرادة تتزاحم فيها المحاور الدولية، ولا تمثل بالضرورة إرادة كلية للنظام في طهران إذا ما قارنا بين الإمكانات الفعلية في إيران وتجرئها على عدم تقدير مخاطر تهديدها لممرات تجارة النفط العالمية، أو تصعيدها المتعلق بتطوير برنامج صواريخها الباليستية أو برنامجها النووي أو مطالبتها الاتحاد الأوروبي بعدم الاستجابة للعقوبات.

الاجتماعات الإيرانية – الروسية – العراقية – السورية في بغداد والتنسيق تحت مبرر الحرب على الإرهاب ينسحب كما رددنا مراراً نحو نيات التمدد الروسي أو التمهيد له بمواطئ قدم استثمارات نفطية وتجارية محددة في إقليم كردستان وباقي العراق، والرغبة بإنشاء قاعدة عسكرية دائمة فيه ربما تكون من بعض قواعد إرساء خرائط تموضعات روسية أميركية قابلة للتحقق في ظل موازين متباينة بين دولة عظمى ودولة كبرى، رغم إدراكنا أنها تباينات ضاربة في نشرات الأخبار غير أنها لا علاقة لها بالحبال السرية التي تشد المصالح كما تشد وترخي عصب التوازنات في العالم.

انخفاض سعر العملة الوطنية في العراق مقابل الدولار بمجرد فرض العقوبات على إيران، مع انهيار ثقة المواطن بغده في ظل نظام سياسي أثبت فشله وعجزه وفساده طيلة أكثر من 15 سنة من الاحتلال، ولانعدام احترام المواطن للنظام ومؤسسات الدولة لغياب النموذج أو المثال واستمرار الأحزاب بالسرقات والاغتناء، وما رافق الانتخابات البرلمانية من فضائح تزوير وحرائق، دفع بعض العراقيين من الذين يمتلكون أدوات الطباعة التقليدية وغير المتخصصة بطباعة العملة النقدية إلى استسهال طباعة العملة العراقية وأيضاً العملة الصعبة بسذاجة فنية بالغة لتسويقها على البسطاء، رغم أن هذا النوع من الطباعة تحتكره دول معينة لمواصفاته الفنية المعقدة ولحاجته لكوادر مدربة ذات خبرة عالية، وما أقدم عليه هؤلاء أمر لا يؤثر كثيراً على الاقتصاد إنما له مردودات إنسانية وحياتية على من يقعون ضحية المقايضة في أرزاقهم اليومية.

الأثر الأكبر في التخوف يكمن في نشاطات أكبر وتعاملات مصرفية تحت إشراف مافيات غسيل الأموال وتبادلات مالية كالتي جرت عند تبديل العملة العراقية بعد الاحتلال في جريمة اقتصادية أثرى من خلالها المئات أو الآلاف من المزورين بملايين العملة الجديدة بعد التواطؤ باستلام العملات المزورة وحرقها رسميا.

سبق لإيران وأن ساهمت بتدمير العملة في زمن الحصار وذلك بضخ العملة الصعبة المزورة المطبوعة في إيران، إضافة إلى وسائلها الأخرى بتدمير الزراعة كما تفعل في الحاضر؛ ثمة إرباك وفوضى نقدية ستزداد مع تقدم العقوبات وهيمنة الميليشيات والقرار الإيراني في العراق الذي سمح لآية الله مجتبى الحسيني ممثل الإمام الخامنئي في العراق بإصدار بيان يشكر فيه المواقف المؤيدة لإيران ويندد ويهاجم “عديمي الوفاء تجاه المواقف الإيرانية من العراق”.

للحقيقة لم أكن أعلم وجود ممثل دائم للولي الفقيه الخامنئي في العراق، وحسن الظن ذهب بي إلى تدخلات إيرج مسجدي في الشؤون العراقية وواجبات الجنرال قاسم سليماني وأوامره كمستشار لرئيس وزراء “العراق” للشؤون الأمنية.

ماذا يعني وجود ممثل دائم للخامنئي في العراق من رجال الدين؟ فضلاً عن إصداره بيانا من داخل العراق يشكر فيه كل عملاء الاحتلال الإيراني ويستكثر على حيدر العبادي حتى “خائنة الأعين” في تعامله مع العقوبات بصفته رئيس وزراء للعراق؛ رغم أن العبادي وحزب الدعوة والأحزاب الطائفية وغالبية من شارك بعملية المحتل السياسية، طالما خانوا، من أجل المرشد وولاية الفقيه، بلادهم ووطنهم الأم.