د. خالد القاسمي يكتب لـ(اليوم الثامن):
التطورات الأخيرة في جنوب اليمن .. والمشهد القادم (1-2)
لا يمكن قراءة الانتشار العسكري للقوات المسلحة الجنوبية في محافظتي حضرموت والمهرة شرق اليمن، بمعزل عن السياق التاريخي والسياسي والعسكري الذي مهّد له، بدءًا من نكث اتفاقات الوحدة، وصولًا إلى انطلاق الحراك الجنوبي المسلح وتأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي. إن ما يجري اليوم في هاتين المحافظتين ليس نتيجة لحظة عابرة، بل هو خلاصة نضال طويل، دفع فيه أبناء الجنوب أثمانًا باهظة من أجل حماية أرضهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم.
في فبراير 1994، كانت وثيقة العهد والاتفاق تمثّل آخر محاولة سلمية جادة لإقامة شراكة فيدرالية حقيقية بين شطري اليمن. لكنها لم تصمد طويلًا أمام نزعة الهيمنة السياسية والعسكرية في صنعاء. ففي 27 أبريل من العام نفسه، شنّ النظام الشمالي حربًا شاملة على الجنوب، انتهت في 7 يوليو باجتياح عدن وفرض السيطرة بالقوة على مؤسسات الدولة الجنوبية، ما أسس لوضع غير طبيعي ظل قائمًا لعقود.
لم يلبث أن تحوّل الإقصاء السياسي والتهميش المتعمد للجنوب إلى بيئة خصبة لانطلاق الحراك الجنوبي السلمي في 2007، الذي بدأ بالمطالبة بحقوق العسكريين والمدنيين الجنوبيين، قبل أن يتطوّر سريعًا إلى حراك شعبي واسع يطالب بفك الارتباط واستعادة الدولة. ورغم قمعه بوسائل القوة، إلا أن الحراك رسّخ وعيًا سياسيًا جمعيًا بالهوية الجنوبية وحقوقها المشروعة.
مع انهيار نظام علي عبدالله صالح في 2011، بدا أن اليمن يتجه إلى تصحيح مساره عبر مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي أقر صيغة فيدرالية من ستة أقاليم، كان من بينها إقليم حضرموت. غير أن هذا التوجه لم يرق للحوثيين وصالح، الذين انقلبوا على مخرجات الحوار في 2014، وأسقطوا صنعاء، ثم تمددوا نحو الجنوب، ليصلوا إلى عدن في مارس 2015.
شكل اجتياح عدن نقطة تحول محورية، إذ تشكّلت نواة المقاومة الجنوبية المسلحة التي كانت رأس الحربة في مواجهة الميليشيات، إلى جانب تدخل التحالف العربي في "عاصفة الحزم". في يوليو 2015، تحررت عدن ضمن عملية "السهم الذهبي"، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من تنظيم الصف الجنوبي، وترسيخ حضور عسكري على الأرض بإشراف وتمويل مباشر من التحالف.
في الوقت الذي بدأت فيه القوات الجنوبية عمليات مشتركة مع التحالف لتحرير محافظات الشمال، وتحديدًا تعز ومأرب والجوف، تعرقلت هذه العمليات بفعل تدخلات سياسية داخل منظومة الشرعية، خاصة من حزب الإصلاح الذي استخدم كل الوسائل لتعطيل المسار العسكري. وقد تسبّب ذلك في انهيار جبهات بكاملها، مثل نهم والجوف في 2022، نتيجة ما وُصف بتواطؤ من داخل "الشرعية نفسها".
لم تتوقف التهديدات عند حدود الانقلاب الحوثي، بل امتدت لتشمل تغلغل التنظيمات المتطرفة مثل القاعدة، التي كانت تنشط بشكل ملحوظ في حضرموت وشبوة وأبين. في أبريل 2016، بدأ التحالف العربي بالتعاون مع القوات الجنوبية عمليات واسعة لتحرير تلك المناطق من الإرهاب، انطلاقًا من المكلا وحتى عدن، وهو ما أثبت فاعلية التحرك الجنوبي في تأمين الأرض وإدارة المعركة.
جاء تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في 4 مايو 2017 كخطوة سياسية طبيعية للحفاظ على مكتسبات التحرير، وتوحيد القرار الجنوبي تحت مظلة تمثيلية. وقد مكّن المجلس من تنظيم العلاقة مع التحالف، وتمثيل الجنوب في المحافل السياسية، والتأسيس لخارطة طريق نحو استعادة الدولة الجنوبية.
في ضوء هذا التاريخ المتراكم، يبدو انتشار القوات الجنوبية في حضرموت والمهرة اليوم خطوة مدروسة، تهدف إلى ملء الفراغ الأمني ومواجهة أي مشاريع تهديد قادمة من الشمال أو من الأطراف المناوئة داخليًا. فحضرموت ليست مجرد محافظة نفطية، بل هي عمق استراتيجي للجنوب، والمهرة تمثل بوابة الأمن القومي في وجه التهريب والتسلل والتهديدات العابرة للحدود.
إن التحركات العسكرية الجنوبية اليوم تحمل مشروعًا سياسيًا واضحًا، وتستند إلى شرعية نابعة من الأرض والتضحيات. وهي لا تستهدف الاستقواء على أحد، بل حماية الجنوب وتأمينه من العبث الذي عانت منه مناطق كثيرة، شمالًا وجنوبًا، على مدى سنوات.
الانتشار الجنوبي شرقي اليمن هو حصيلة معركة طويلة عنوانها: الصبر، والإرادة، والإصرار على الاستقلال بالقرار والمصير. إنه لا يعكس فقط تغيرًا في موازين القوى، بل أيضًا وعيًا جديدًا يتشكل في الجنوب، يرى أن الاستقرار لا يُمنح، بل يُنتزع بالثبات على الأرض والقدرة على الصمود. وما تفعله القوات المسلحة الجنوبية اليوم ليس سوى إعادة رسم الخارطة الأمنية، بما يضمن ألا يُفرض على الجنوب مرة أخرى واقع لا يشبهه ولا يمثله.


