د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
إلى أين يتجه نظام الملالي بمصير إيران؟
الولي الفقيه يقود دولة بحجم إيران نحو الهاوية... فهل تقوم لهم قائمة بعد هذا التفسّخ والانهيار؟
غيبوبة النظام وبصمات الفوضى..
يبدو أن نظام الملالي اليوم كمن يسير في غيبوبةٍ سياسية عميقة حيث فقدَ القدرة على التمييز بين الواقع والوهم بين ما يعتقده من "ثوابت ثورية" وما يعيشه من عزلة خانقة في الداخل والخارج.. يقف الولي الفقيه على رأس هرمٍ مترنّح وقد تجاوزت أزماته حدود العقل فيما يلهث رئيس جمهوريته وراء فتات السلطة في مشهدٍ أقرب إلى مسرحٍ عبثيٍّ يختلط فيه الهوس الديني بالحسابات الأمنية.
لقد تحوّل النظام الإيراني إلى جهازٍ عتيق فقد وظائفه الطبيعية؛ فلا هو قادر على الإصلاح ولا على التراجع، ولا يملك من أدوات البقاء سوى القمع والتضليل؛ يُدير الدولة كما لو كانت مزرعةً خاصة لمافيا الحرس الثوري ويُهدر مقدراتها في مغامراتٍ خارجية لا طائل منها بينما تئنّ الشوارع الإيرانية تحت وطأة الفقر والبطالة والفساد.
الانهيار الداخلي والتفسخ داخل النظام
لا تكاد تخلو لحظة من الانقسامات بين أجنحة النظام المختلفة حيث يتصارع كل جناح على الحصة الأكبر من السلطة والمغانم السياسية.. هذه الخلافات ليست مجرد صراعات على النفوذ بل انعكاس حقيقي لتفسّخ النظام وضعف وليه الفقيه الذي يفتقر إلى الكاريزما والرؤية والإجماع الضروريين لقيادة دولة بحجم إيران.
صراع الأجنحة: انعكاس لضعف النظام وانفجار الغضب الشعبي
من الطبيعي أن يتصارع كل جناح من أجنحة النظام على الغنيمة الأكبر والحصة الأوفر من السلطة في هذا النظام القائم على الإعدام والتعذيب ونهب وسرقة ثروات الشعب.
الواقع أنّ هذه الخلافات ليست سوى دليل على تفسّخ النظام والضعف المفرط لولاية خامنئي الذي يلجأ إلى المزيد من الإعدامات والقمع المكثف للتغطية على هذا الضعف، وفي المقابل نشهد اندلاع نيران غضب الشعب وتوسيع أنشطة وحدات المقاومة إضافة إلى الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي سرعان ما سترسل هذا النظام المعادي للبشرية إلى مزبلة التاريخ بفضل المقاومة المنظمة.
اقتصاد على شفا الانهيار
لم يعد الاقتصاد الإيراني سوى هيكلٍ متهالك تتقاسمه مافيا الحرس الثوري وشبكات التهريب وغُرف المصالح المحيطة بالولي الفقيه، ورغم ما تروّج له وسائل الإعلام الرسمية من صمودٍ أسطوري أمام العقوبات فإن الواقع يقول شيئًا آخر "انهيار العملة المحلية، وتراجع الإنتاج، وغلاء الأسعار وهجرة العقول."
لقد أدت سياسات "الاقتصاد المقاوم" التي تبجّح بها النظام إلى تدمير البنية الإنتاجية بدلًا من دعمها.. فبينما تُنفق طهران المليارات على دعم ميليشياتها في لبنان والعراق واليمن وسوريا يفتقد المواطن الإيراني أبسط مقومات الحياة.
إنها مفارقة مأساوية.. بلد يمتلك ثروات نفطية هائلة واحتياطيات غازية هي الثانية في العالم بيد أنه عاجز عن تأمين الخبز والكهرباء والدواء لمواطنيه.. كل ذلك لأن النظام جعل من الهيمنة الإقليمية بديلاً عن التنمية الوطنية ومن تصدير الثورة بديلاً عن بناء الدولة.
تصدّع الداخل وغضب الشارع
منذ انتفاضة عام 2019 مرورًا باحتجاجات عام 2022 بعد مقتل مهسا أميني يعيش النظام في حالة طوارئ دائمة.. فالغضب الشعبي لم يعد حدثًا عابرًا بل تحوّل إلى مزاج عام يشمل المدن والقرى والجامعات والعمال والنساء والطلاب، ولم تعد الشعارات تقتصر على المطالب المعيشية بل تجاوزتها إلى المطالبة بإسقاط النظام ذاته.
في الشارع الإيراني تُردَّد اليوم عبارات كانت في الماضي من المحرّمات: "الموت للدكتاتور"، "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران".. هذه الأصوات لم تعد يُخيفها الجلّادون ولا أجهزة الأمن لأنها تؤمن أن الخوف لم يعد يجلب سوى الموت البطيء.. لكن ما يزيد من هشاشة النظام هو أن أركانه نفسها في حالة تآكل من الداخل.. فالانقسامات بين جناحَي المحافظين والإصلاحيين لم تعد مجرد صراعٍ سياسي بل تحوّلت إلى معركة بقاء إذ يحاول كل طرفٍ النجاة من سفينةٍ تغرق ببطء.
الولي الفقيه.. من ولايةٍ إلى وصاية
منذ أن رفع خميني شعار "ولاية الفقيه" تحوّل الشعار إلى أداةٍ للهيمنة المطلقة باسم الدين.. إلا أن التجربة العملية أظهرت أن الولي الفقيه لم يكن حارسًا على القيم بل وصيًا على رقاب الناس؛ فبدل أن تكون المرجعية الدينية ضمانةً للعدل أصبحت ذريعة للاستبداد، واليوم يبدو علي خامنئي أشبه بظلٍّ باهتٍ يحكم من وراء جدران الخوف يستمدّ سلطته من شبكة الولاءات الأمنية والعسكرية لا من الشرعية الشعبية.. إنه يعيش في عزلةٍ مزدوجة.. "عزلةٍ عن شعبه، وعزلةٍ عن العالم.. وما يزيد الطين بلّة أنّ خليفته المحتمل حتى لو كان المعمم صادق لاريجاني أو المعمم أحمد جنتي لا يملك الكاريزما ولا الرؤية ولا الإجماع اللازم لقيادة دولةٍ بهذا الحجم.. ولقد تحوّلت "جمهورية الملالي" إلى ملكيةٍ دينية مغلقة تُدار بالوصايا والفتاوى، ويُمنع فيها التفكير الحر والنقد العلنيين حتى باتت الدولة رهينة رجلٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ وزمنٍ مضى.
عزلة خارجية وحروب بالوكالة
في الخارج لم تعد إيران تمتلك سوى أدوات الفوضى: ميليشياتها في المنطقة، وأذرعها الإعلامية، وحروبها بالوكالة.. لكنها اليوم تدفع ثمن هذه السياسة غاليًا حيث تحوّل نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن إلى عبءٍ سياسي واقتصادي ينهكها بدل أن يعزّز قوتها، ورغم محاولات التقارب التكتيكي مع بعض الدول العربية فإن الثقة مفقودة.. فلا أحد يصدق وعود نظامٍ يبتسم في المفاوضات بينما يُسلّح الميليشيات في الخفاء.. فحتى حلفاؤه التقليديون كروسيا والصين يتعاملون معه كأداةٍ مؤقتة أكثر من كونه شريكًا استراتيجيًا.
إن إيران ما بعد الثورة لم تعد مصدر إلهامٍ كما كانت تدّعي بل نموذج تحذيري لما تفعله الأيديولوجيا حين تتحكّم في الدولة؛ فالعالم يرى اليوم دولةً تملك حضارةً عريقة لكنها تُقاد بعقلٍ مذهبيٍّ متحجر يختزل الأمة في شخصٍ واحد.
المستقبل المجهول.. وسؤال البقاء
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن لنظام الملالي أن ينهض من هذا الركام؟
الجواب الواقعي: إنّ احتمالات البقاء تضعف كل يوم ذلك لأن النظام فقد أهم ركيزتين لأي سلطةٍ سياسية: الشرعية الداخلية والدعم الخارجي.. فلا أحد يؤمن بعدالته في الداخل ولا أحد يثق في صدق نيته في الخارج حتى داخل مؤسساته تتسع فجوة الخوف والشكّ. ووفق تقارير من داخل إيران، بدأ تفكك الأجهزة الأمنية، وازدياد حالات الفساد والتململ بين عناصر الحرس الثوري، وكل ذلك يجعل الانفجار مسألة وقتٍ لا أكثر.
قد يحاول النظام تأجيل سقوطه عبر القمع الدموي أو المناورات النووية لكن هذه الأدوات استُهلكت؛ فالشعب الذي كسر حاجز الخوف لن يعود إلى القفص، والعالم الذي شاهد جرائمه لن يمدّ له يد النجاة.
نحو فجر ما بعد الملالي
ختاماً.. إيران اليوم على مفترق طرقٍ تاريخي.. إمّا أن تستعيد هويتها الوطنية الحرة وتتحرّر من عباءة ولاية الفقيه أو تسقط في هاويةٍ لا قرار لها.. فالدولة التي كانت يومًا مهدًا للحضارة والفكر والإبداع لا يليق بها أن تبقى أسيرةً لنظامٍ يحكم بمنطق القرون الوسطى.
إن نهاية الملالي ليست مجرد احتمال سياسي بل هي حتمية تاريخية ذلك لأن كل سلطةٍ تُبنى على القمع والكذب لا بدّ أن تنهار من داخلها.
وحين تنهض إيران الجديدة.. تلك التي يحلم بها شبابها ونساؤها وعمّالها ومثقفوها تحت كنف قيادة السيدة مريم رجوي والزعيم مسعود رجوي ستُعيد إلى الشرق وجهه المشرق، وتثبت أن الشعوب مهما طال ليلها لا تموت في الغيبوبة بل تصحو لتكتب التاريخ من جديد.
د. سامي خاطر/ أكاديمي وأستاذ جامعي


