أسامة الأطلسي يكتب لـ(اليوم الثامن):
حين يفوق الإهمال قسوة البرد: رواية الناس عن شتاء غزة المتجدد
على مدى ثلاثة فصول شتاء متتالية، يقف سكان غزة أمام المشهد ذاته: برد قارس، بيوت متضررة، مخيمات تغرق بمياه الأمطار، وقيادة تبدو أبعد من أي وقت مضى عن تفاصيل الحياة اليومية للناس. وكأن السنوات تمضي دون أن تغيّر شيئاً، سوى أنها تزيد من شعور الغزيين بأنهم مكشوفون، بلا حماية، وبلا صوت يصل إلى من بيده القرار.
في الأحياء القديمة والطرق الضيقة، يمكن رؤية آثار الإهمال من النظرة الأولى. شقوق في الجدران، أسقف مائلة، ألواح خشبية مغطاة بالنايلون تشكل "أسقفاً" مؤقتة لا تصمد أمام أول موجة مطر. ورغم أن الظروف ليست جديدة، إلا أن ما يثير غضب السكان هذا العام هو الشعور الواضح بأن أحداً لا يتحرك قبل وقوع الضرر، وأن القرارات المتأخرة أصبحت جزءاً من نمط دائم.
أحد الرجال المسنين في منطقة الشجاعية قال لي وهو يشير إلى منزله المتضرر:
"نحن هنا منذ عقود، ونعرف الشتاء جيداً. لكن ما لا نفهمه هو لماذا نواجهه وحدنا. لماذا لا توجد خطة واضحة؟ لماذا نحتاج أن نخسر كل شيء مرة أخرى قبل أن يأتي من يسأل عنّا؟"
صوته لم يكن صوت شكوى بقدر ما كان صوتاً يحمل مرارة طويلة. فهو لا يطلب أكثر من الحد الأدنى: بيت يحميه، ومؤسسات تتذكر أن الناس لا يعيشون على الوعود.
أما النساء اللواتي يتحملن الجزء الأكبر من أعباء الحياة، فلهن رواية أكثر قسوة. أم أحمد، التي تعيش مع أربعة أطفال في غرفة واحدة بعد تضرر منزلها، تقول إن أكثر لحظات الخوف تأتي ليلاً حين يبدأ المطر بالتسرب.
"أجلس على الأرض طوال الليل أحاول إبعاد الماء عن الفرش. أخاف أن يمرض الأطفال، وأخاف أن ينهار السقف. لكن لا خيار أمامي."
هذه التفاصيل الصغيرة — التي تتكرر في آلاف البيوت — هي ما يجعل المشهد أكثر إيلاماً. فالمشكلة ليست في المناخ، بل في غياب الاستعداد، غياب الرؤية، وغياب الإحساس بمعاناة الناس الذين فقدوا صبرهم، وصاروا يشعرون أن القيادة تنظر إليهم من بعيد، دون أن تلمس الأرض التي يعيشون عليها.
وما يزيد الوجع هو أن الشتاء في غزة لا يأتي وحده. يأتي محمّلاً بالأعباء الاقتصادية، بارتفاع الأسعار، بانقطاع الكهرباء، وبضعف البنية التحتية. وفي ظل كل هذا، يصبح السؤال مشروعاً: كيف يمكن لمجتمع منهك أن يواصل الصمود بينما تقل الحلول وتزداد الأعباء؟
من الواضح أن غزة لا تحتاج فقط إلى مشاريع إسعافية، بل إلى رؤية تعيد للناس ثقتهم بأن هناك من يهتم. فالسكان يريدون شيئاً بسيطاً: أن تُرى معاناتهم، أن تُسمع أصواتهم، وأن يصبح حقهم في حياة بكرامة جزءاً من أولويات القيادة.
إن شتاء غزة هو مرآة للواقع كله. يفضح ما لا نريد الاعتراف به: أن الناس هنا يعيشون في حلقة مفرغة من الألم، ينتظرون حلولاً لا تأتي، ووعوداً لا تكتمل. وربما حان الوقت لنعترف بأن هذه المعاناة ليست قدراً، بل نتيجة غياب حقيقي للإدارة والاهتمام.
وحتى يتغيّر هذا الواقع، سيبقى الشتاء — بكل ما يحمله من برد وأمطار — تذكيراً مؤلماً بأن الكرامة الإنسانية ليست مطلباً ثانوياً، وأن من يعيشون هنا يستحقون حياة أكثر دفئاً، وأكثر احتراماً، وأكثر إنصافاً.


