ميلاد عمر المزوغي يكتب لـ(اليوم الثامن):
الحوار المهيكل.. إدارة للأزمة الليبية لا حلٌّ لها
على مدى أكثر من أربعة عشر عامًا، لم تعرف ليبيا طريقًا مستقيمًا نحو الاستقرار، رغم عشرات الملتقيات والمؤتمرات وورش العمل التي عقدتها الأمم المتحدة في عواصم مختلفة. عشرة مبعوثين أمميين تعاقبوا على الملف، تنقّلوا بين طرابلس وتونس وجنيف وبروكسل، وكلهم رفعوا الشعارات نفسها: “الانتقال السلمي، والمصالحة الوطنية، وبناء المؤسسات”، لكن النتيجة واحدة: بلد يزداد فقرًا، وأمنٌ يتآكل، وفسادٌ يتضخم، وحلم الدولة يتلاشى في زحمة البيانات والتصريحات.
كل مبعوث جديد يأتي وفي جعبته كلمات منمقة ومقترحات منسوخة، يتحدث عن “العملية السياسية” و“الحوار الليبي-الليبي”، ثم يغادر بعد أشهر تاركًا الليبيين في المربع الأول. الأمم المتحدة لم تُنتج حلاً، بل أدارت الأزمة وكأنها مشروع طويل الأجل، تُنفق عليه الملايين من ميزانيتها دون نتائج ملموسة. أقصى ما فعلته أنها وصفت الواقع وربما شرّحته، لكنها لم تقترب يومًا من تطبيق أي توصية يمكن أن تحسّن حياة الناس في هذا البلد المنهك بالصراعات الجهوية والمسلحة.
الشعب الليبي، المسلوب الإرادة، يشاهد منذ سنوات من اختارتهم الأمم المتحدة وهم يهدرون المال العام في مشاريع شكلية، يرفعون شعارات براقة عن “عودة الحياة” و“مدن رياضية”، بينما المدن الحقيقية غارقة في العتمة والفوضى. حتى لجنة الـ75 التي أوكل إليها إعداد المرحلة الانتقالية ونتج عنها الثنائي (المنفي/الدبيبة)، لم تسلم من فضائح الرشى، إذ أعلنت الأمم المتحدة نفسها عن وجود “مال فاسد” استُخدم في شراء الذمم، لكنها لم تجرؤ على كشف الراشين أو محاسبة المرتشين، بل أغلقت الملف وكأن شيئًا لم يكن، لتستمر الحكومة الحالية ومجلسها الرئاسي في السلطة لأكثر من أربع سنوات، بينما كان يفترض أن يهيئا لانتخابات في غضون عام واحد.
الحديث المتكرر عن “أن الأمم المتحدة ترعى الحوار ولا تتدخل فيه” ليس سوى تبريرٍ للعجز وتغطيةٍ للفشل، بل هو في الحقيقة مساهمة مباشرة في إطالة عمر الأزمة وتغوّل المتنفذين في السلطة. فالأفرقاء الليبيون الذين يملؤون المشهد اليوم لا يختلفون في شيء: جميعهم يعملون لأجل مصالحهم الخاصة، يتبادلون الأدوار والمناصب ويُظهرون بين حين وآخر مبادرات شكلية لكسب الرأي العام، بينما البلاد تزداد انهيارًا يوماً بعد آخر.
نحن لسنا بحاجة إلى مهرجانات دعائية أو مشاريع “استعراضية” تُكلف خزينة الدولة مليارات الدينارات تحت عناوين براقة مثل “عودة الحياة” أو “مضمار السيارات الرياضية”، في وقتٍ لا يجد المواطن وسيلة نقلٍ عامة تقله إلى عمله، ولا يقدر على شراء مركبة خاصة بسبب الغلاء الفاحش.
الحديث عن “الحوكمة” و“الأمن” و“المصالحة الوطنية” في ظل هذه الظروف العصيبة ليس إلا استخفافًا بعقول الليبيين ومحاولة لتخديرهم بخطابات لا تسمن ولا تغني من جوع. كان على الأمم المتحدة منذ الأيام الأولى للأزمة أن تمارس دورها الحقيقي كرقيب صارم، لا كوسيط متردد، وأن تضع النقاط على الحروف، وتُسمّي المعرقلين بالأسماء، وتُحيلهم إلى العدالة، لا أن تدور في حلقات مفرغة من الاجتماعات العقيمة واللجان المتناسلة بلا نهاية.
لا يمكن مناقشة قضايا كبرى كالأمن والمصالحة في ظل سلطة تنفيذية مشلولة، تتقاسمها أطراف متناحرة تبحث عن النفوذ والثروة لا عن الدولة. البلد بلا رئيس منتخب يملك الشرعية والجرأة ليضرب على الطاولة في وجه الميليشيات والمتلاعبين بقوت الناس. فكيف يمكن الحديث عن أمنٍ مستقر والسلاح ما زال منتشراً في كل حيّ وزقاق، تحت سمع وبصر بعثة “إيريني” الأوروبية المفترض أنها تراقب حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا؟!
الواقع أن السلاح موجود، والميليشيات تتكاثر، وجميعها – للمفارقة – تتقاضى مرتبات ومكافآت من الخزينة العامة، سواء كانت تتبع وزارة الدفاع أو الداخلية أو المجلس الرئاسي، ما يجعل الدولة تموّل فوضاها بيدها.
أما الأحزاب السياسية والمجالس الاجتماعية، فمعظمها لا يختلف عن الميليشيات في منطق السيطرة. يرفعون راية “الضغط الشعبي” ويهددون باستخدام الشارع للمطالبة بالانتخابات، لكنهم في الحقيقة عاجزون عن تحريك الناس لأن الشارع فقد ثقته بالجميع. الشعب يدرك أن كل هذه الأجسام – بأسمائها وشعاراتها – لا تعمل إلا لمصالحها، وأنها جزء من المشكلة لا من الحل.
ورغم أن الأمم المتحدة تحاول دائمًا الظهور بمظهر الوسيط النزيه، فإنها تعلم يقينًا أن الأزمة الليبية ليست داخلية فقط، بل تتشابك فيها خيوط الإقليم والمصالح الدولية. فالتدخلات الخارجية ساهمت في تعميق الانقسام: دولٌ عربية وإقليمية دعمت هذا الطرف أو ذاك، بالسلاح والمال والإعلام، فبات القرار الليبي موزعًا بين عواصم متعددة. بعض الدول رأت في ليبيا ساحة نفوذٍ استراتيجي على المتوسط، وأخرى أرادتها ورقة ضغط في صراعاتها الأوسع. أما القوى الغربية، فتعاملت مع ليبيا كملف أمني يتعلق بالهجرة والإرهاب فقط، لا كدولة تستحق أن تُبنى من جديد.
ومع كل هذا التشابك، لم تقدّم الأمم المتحدة خطة واضحة لتفكيك هذه الشبكة المعقدة من المصالح، بل اكتفت بتدوير الأسماء والوجوه نفسها، تُقصي من يُزعجها وتقرّب من يُجيد اللغة الدبلوماسية. لذلك لم يكن غريبًا أن يتحوّل الحوار الوطني إلى إدارة للأزمة لا حلٍّ لها، وإلى ما يشبه السوق السياسي الذي يُوزَّع فيه النفوذ بين اللاعبين المحليين والدوليين، بينما يبقى المواطن الليبي الخاسر الوحيد.
اليوم، ليبيا بحاجة إلى ما هو أكثر من “حوارات شكلية”، إلى مشروع وطني يُعيد الكلمة للشعب، ويُنهي حقبة الوصاية الأممية التي فشلت في كل اختبار. فإما أن تُستعاد الدولة بإرادة ليبية حقيقية، أو أن يستمر الدوران في الحلقة نفسها، حتى تبتلع الفوضى ما تبقّى من هذا الوطن الجريح.
ويبقى السؤال الكبير: هل ينهض الليبيون ويكسرون دائرة الخنوع، فيستعيدون قرارهم بأيديهم، ويعلنونها ثورة على الفساد والهيمنة والتبعية؟ أم يكتفون بمشاهدة المسرح ذاته، تتغيّر فيه الوجوه ويبقى المشهد كما هو منذ أربعة عشر عامًا؟



