«اليوم الثامن» تفكك خطاب العرادة.. شرعنة تمرد "صغير" وتلميح إلى دعم إقليمي..

تهديدات «إخوان مأرب» بحرب ضد الجنوب.. مغامرة قد تكلف التنظيم خسارة أغنى المحافظات اليمنية (نظرة فاحصة)

يكشف خطاب العرادة عن رد فعل استراتيجي على تحول القوة نحو الجنوب، مستخدمًا مواجهة الحوثي كشعار تعبوي لتبرير تحشيد مضاد لحضرموت وشبوة. لم يعد الجنوب مربع تفاوض بل مربع نفوذ، فيما تسعى مأرب لاستعادة موقعها عبر غطاء إقليمي غير محسوم.

اللواء سلطان العرادة حاكم مأرب الخاضعة لسيطرة جماعة الإخوان المسلمين وفي الخلف وهو يصافح رئيس هيئة الأركان اللواء صغير بن عزيز - إعلام يمني

فريق التحرير
فريق تحرير صحيفة اليوم الثامن

يكشف خطاب سلطان العرادة عن محاولة لملء فراغ استراتيجي نشأ عقب تحولات 3 ديسمبر/كانون الأول 2025، حين انتقلت مراكز الثقل من مأرب إلى عدن. ويظهر الخطاب كرؤية رد فعل أكثر منه مشروع مواجهة للحوثي؛ فالأخير يتحول إلى غطاء تعبوي لتبرير تحشيد مضاد للجنوب، بينما تُعاد صياغة “استيعاب المنطقة الأولى” كذراع هجومي نحو حضرموت وشبوة لا لتحرير صنعاء. التحولات على الأرض ـ بما فيها ضبط مسارات التهريب وتأمين الحدود ـ جعلت الجنوب مربع نفوذ لا تفاوض، فيما تحولت مأرب إلى مربع رد فعل يسعى لاستعادة خسائره عبر غطاء إقليمي لم يتضح موقفه بعد.

____________________________________________________

أطلقت القوى المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين في مأرب، أهم معاقل نفوذ الجماعة شمال شرق اليمن، إشارات واضحة إلى إمكانية استدعاء سيناريو مشابه لحرب أغسطس/آب 2019، وهي الحرب التي انتهت بسيطرة تلك القوات على محافظة شبوة لقرابة ثلاثة أعوام بدعم إقليمي مباشر. وفي السياق ذاته، ألمّح عضو مجلس القيادة الرئاسي ومحافظ مأرب سلطان العرادة إلى إعادة ترتيب وضع قوات المنطقة العسكرية الأولى، التي فقدت موطئ قدمها يوم الـ3 من ديسمبر كانون الأول 2025م بعد الضربات التي تلقتها في وادي وصحراء حضرموت والمهرة على يد القوات الجنوبية.

ونفذت القوات المسلحة الجنوبية –مطلع ديسمبر كانون الأول الجاري)، عملية عسكرية هي الأوسع منذ أواخر عام 2021، جاءت على خلفية تمرد مسلح قاده أحد الزعماء القبليين المحسوبين على جماعات إقليمية، انتهى بسيطرة مجموعات مسلحة على منشأة "بترو مسيلة" الحكومية. وقد وصف عضو مجلس القيادة الرئاسي ونائب رئيسه اللواء فرج سالمين البحسني ما جرى بأنه تمرد يستهدف الأمن والاستقرار في المنطقة، ليشرف بنفسه على العملية العسكرية التي حملت اسم "المستقبل الواعد". ونجحت العملية خلال ساعات في بسط السيطرة على كافة قواعد المنطقة العسكرية الأولى، ومطار سيئون الدولي، ومراكز الشرطة والأمن، قبل أن تتوسع لاحقًا نحو مواقع رئيسية في محافظة المهرة الواقعة على الحدود مع سلطنة عمان.

 

وخلال اجتماع عسكري طارئ عقد في مأرب عقب عودته من العاصمة السعودية الرياض مساء الخميس (4 ديسمبر)، قال العرادة إن “الأشقاء (السعودية) سيقفون معنا، وهم قد وقفوا معنا وضحّوا بأموالهم في سبيل هزيمة الانقلاب الحوثي”. ويأتي هذا التصريح في سياق بالغ الحساسية، إذ ترى مصادر في المجلس الانتقالي الجنوبي أن أي تحرك عسكري جديد من مأرب باتجاه الجنوب لن يكون سوى خدمة مباشرة للحوثيين الموالين لإيران، على غرار مخرجات حرب 2019 التي أفضت إلى تعزيز سلطة الحوثيين في الشمال مقابل إضعاف الجبهة المناهضة لهم.

 

وبحسب مصدر مطلع في الانتقالي تحدث لـ«اليوم الثامن»، فإن المكاسب العسكرية والأمنية التي تحققت في فترة قصيرة بوادي حضرموت والمهرة لا تمثل فقط تحولًا في معادلة القوة، بل تخلق كذلك مصفوفة أمنية تنعكس إيجابًا على الحرب ضد الحوثيين عبر تأمين المنافذ البرية والبحرية التي استخدمت لسنوات كممرات لتهريب السلاح والممنوعات.

وأشار مصدر عسكري جنوبي إلى أن رئيس هيئة الأركان اللواء صغير بن عزيز ومحافظ مأرب سلطان العرادة يتحملان "المسؤولية الكاملة والمباشرة" عن أي تحشيد عسكري أو مغامرة قتالية باتجاه حضرموت أو شبوة، معتبرًا أن التحركات التي يتم تداولها حاليًا بمثابة "تمرد على قرار وزير الدفاع ومجلس القيادة الرئاسي، وتقويض لهيبة الدولة في لحظة حرب معقدة". وأوضح المصدر في تصريح لـ«اليوم الثامن» أن أي محاولة لاستدعاء سيناريو أغسطس/آب 2019 لن تكون سوى خدمة مباشرة للحوثيين، الذين قد ينفذون حينها قرارًا بالسيطرة على منابع الثروة الطبيعية في مأرب “التي لم يتبقّ منها سوى مركز المحافظة، ولولا وجود قوات العمالقة في حريب لكانت مأرب سقطت قبل أربعة أعوام”، على حد وصفه.

 

وسخر المصدر من تقارير إعلامية إخوانية زعمت بأن الخطوات الجنوبية تمثّل "سعيًا لتحقيق مكاسب استراتيجية"، مؤكدًا أن سلاح الجنوبيين يتجه فقط نحو الحوثيين، وأن الجبهة الرئيسية التي تربط قوى الجنوب ومأرب هي جبهة واحدة ضد المشروع الحوثي، وليست ضد مأرب أو تعز أو أي محافظة أخرى. وأكد أن “سلاح أبناء الجنوب إلى جانب أبناء مأرب الحقيقيين”، في إشارة إلى أن نقطة الاشتباك ليست مع السكان المحليين، بل مع قيادات سياسية–عسكرية تحاول، وفق قوله، استثمار الفوضى.

 

وأضاف المصدر أن أي تحرك عسكري في وادي حضرموت أو صحرائها أو في المهرة يستهدف في المقام الأول تأمين خطوط العمليات الخلفية قبيل إعادة توجيه المعركة نحو صنعاء، معتبرًا أن “هذا مطلب استراتيجي لمنع اختراقات الحوثيين عبر مسارات التهريب أو التمدد”. وشدد على أن الهدف الاستراتيجي ما يزال يتمثل في “تحرير صنعاء والخلاص المشترك من المشروع الإمامي السلالي”، داعيًا إلى تحصين الجبهة الداخلية من أي مساومات سياسية أو حسابات فئوية “يمكن أن يستثمرها الحوثي”.

 

أفادت وكالة الأنباء اليمنية الرسمية (سبأ)، التي تبث من الرياض، بأن عضو مجلس القيادة الرئاسي ومحافظ مأرب سلطان العرادة اعتبر أن ما يشهده اليمن هو نتيجة مباشرة للانقلاب الذي نفذته جماعة الحوثي بدعم إيراني. إلا أن مضامين حديثه حملت إشارات غير مباشرة إلى تداعيات سيطرة القوات الجنوبية على وادي حضرموت والمهرة، وهو التطور الذي مثّل خسارة استراتيجية لجماعة الإخوان ومصدر قلق إقليمي لحلفائها. وفي محاولة لطمأنة قواعده، تعهد العرادة بـ“العودة إلى الجنوب” لكن “بعد استعادة مؤسسات الدولة”، في صياغة توحي بأن رهانه السياسي والعسكري معتمد على دعم إقليمي يعيد له القدرة على استعادة تلك المناطق. وجاء تصريحه: «سنحل كافة الإشكاليات ومعالجتها عندما يتم استعادة مؤسسات الدولة»، تعبيرًا عن قناعة ضمنية بأن هناك مظلة خارجية ستتاح لاستعادة وادي حضرموت والمهرة بالقوة متى سنحت الظروف.

 

تزامنت هذه التصريحات مع إعلان تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مسؤوليته عن هجمات استهدفت قوات جنوبية في وادي حضرموت، في خطوة اعتبرها مراقبون «تصعيدًا استباقيًا» يهدف إلى زعزعة ترتيبات السيطرة الجديدة، وربط التنظيم ذلك سياسيًا بعملية أمريكية نفذتها قوات خاصة عام 2017 في محافظة البيضاء. وقد عقد العرادة اجتماعًا موسعًا في مأرب ضم رئيس هيئة الأركان العامة اللواء صغير بن عزيز وعددًا من القيادات العسكرية والأمنية، وفق ما نقلته الوكالة، لكن دون نشر نص الخطاب الحرفي الذي بث لاحقًا عبر قناة اليمن الرسمية.

 

ومن خلال الاطلاع المباشر على خطاب العرادة، يلاحظ أنه لم يكتف بتحميل الحوثيين مسؤولية الوضع العام، بل وجّه رسائل سياسية عميقة نحو الجنوب. فالقول بأن «أكثر ما يضر الشعب اليمني أنه يحمل أوزار الماضي» ليس دعوة إلى المصالحة بقدر ما هو رفض لوجود ذاكرة سياسية جنوبية مستقلة. والمقصود بالماضي هنا ليس فترة ثورة 2011 أو 26 سبتمبر، بل حقبة الدولتين (الجمهورية العربية اليمنية/واليمن الديمقراطية)، وهو ما يعني اعتراضًا صريحًا على أي سردية تاريخية ترى الجنوب ككيان سياسي متميز. وبذلك تصبح أي إشارة لمشروع استعادة الدولة الجنوبية بمثابة «استحضار للماضي»، أي حالة “مرضية” ينبغي التخلص منها، وفق منطق الخطاب.

 

ويتسق مع هذا السياق تكرار العرادة لعبارات «الدولة اليمنية الواحدة»، و«من البحر إلى البحر»، و«لا أسماء ولا مناطق»، وهي ليست دعوات لوحدة وطنية بقدر ما هي صياغة سياسية مضادة لمشروع الانتقالي الجنوبي. ويمكن قراءة النص في جوهره باعتباره توصيفًا للجنوب كحالة “مناطقية” سيتم “تصحيحها”، وهي صيغة غير مباشرة لكنها قوية في دلالتها السياسية.

 

من جهة أخرى، كرر العرادة الإشارة إلى الدعم السعودي بوصفه «دعما قائمًا» لقوات مأرب، مستخدمًا ضمير المخاطب «معكم» بدلاً من تقديمه كدعم عام لكل القوى التي تقاتل الحوثيين. هذا التفريق الحاد يبعث برسالة واضحة مفادها أن هناك مظلة إقليمية مرتبطة بقوات محددة، وتحديدًا القوات المحسوبة على الإخوان. ويُعد ذلك من أهم مؤشرات الخطاب؛ إذ يتجاوز الإطار المحلي ليقدم مشروعية إقليمية فوق أي شرعية محلية.

 

كما عمد العرادة إلى تقليل حجم التحول الذي حدث في وادي حضرموت والمهرة بوصفه «نتوءات» و«غرابات في الوحدات»، وهو خطاب يستهدف امتصاص الصدمة المعنوية داخل مأرب. لكن هذا الوصف يدخل في إطار الحرب النفسية، إذ أن التطورات على الأرض تجاوزت “الخلافات” لتشكل ضربة استراتيجية أعادت توزيع موازين القوة في الشرق اليمني. ويبدو أن محاولة التقليل تعكس خشية من منح الانتقالي انتصارًا سياسيًا، في وقت تحاول فيه مأرب إعادة التموضع استعدادًا لجولة صراع جديدة.

 

 على الرغم من الخطاب المكثف الذي يلجأ إليه سلطان العرادة حول “ضرورة مواجهة الحوثي” و“استعادة الدولة”، إلا أن هذا الاستخدام يبدو أقرب إلى وظيفة خطابية منه إلى التزام ميداني. فمنذ عام 2016، أي منذ تصعيد علي محسن الأحمر إلى منصب نائب رئيس الجمهورية، دخلت جبهة مأرب في حالة هدنة غير معلنة مع الحوثيين، بما أتاح للطرفين ترتيب أوراقهما دون كلفة عسكرية مباشرة. هذه الهدنة المديدة شكّلت مفارقة جوهرية: فالطرف الذي يرفع شعار “استعادة الدولة” كان عمليًا يترك الحوثي يتمدد في الجغرافيا الشمالية والحوض القبلي، بينما يُراكم نفوذًا سياسيًا وأمنيًا داخل الحكومة في مناطق المحرر.

 

بهذا المعنى، تصبح دعوات العرادة لمواجهة الحوثي جزءًا من وظيفة رمزية وليست إستراتيجية قتالية. فالقوات المحسوبة على الإخوان في مأرب لم تنخرط في معركة استنزاف مع الحوثيين خلال السنوات الأخيرة، بل أعادت تعريف نفسها بوصفها المخزون العسكري الذي ينبغي الاحتفاظ به لمرحلة لاحقة ليست بالضرورة ضد الحوثي، بل ضد الجنوب إذا ما تم تكريس مشروعه السياسي والمؤسسي. وهو ما يجعل فكرة “تحرير صنعاء” مجرد ذريعة تعبئة معنوية، بينما المسار الفعلي للصراع يعيد توجيه طموحات مأرب شرقًا نحو حضرموت وشبوة لا شمالًا نحو عمران وصعدة.

لا يكمن ثقل خطاب سلطان العرادة في عباراته المباشرة، وإنما في الفراغ السياسي–الاستراتيجي الذي يحاول ملأه، وفي سعيه للظهور بمظهر الواثق بوجود فاعل إقليمي قادر على إعادة تشكيل المشهد الذي أعقب أحداث الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2025. فالتحول الذي جرى في وادي حضرموت والمهرة أعاد توزيع مراكز الثقل من مأرب إلى عدن، وهو تحول يصعب على مأرب قبول نتائجه دون محاولة مضادة، لا سيما عبر الرهان على تدخل خارجي ما زال موقفه النهائي من هذه التطورات غير محسوم بالكامل.

 

وما يمكن الجزم به هو أن الحوثيين—رغم ضخامة خطاب العداء—لا يشكلون في الحسابات الواقعية لمأرب “عدوًا أول”، بل يتحولون وظيفيًا إلى غطاء تعبوي يمنح مشروعية لصناعة تحشيد جديد ضد الجنوب. أما الحديث عن “استيعاب المنطقة العسكرية الأولى” فهو عمليًا إعادة تشكيل ذراع قتالي موجّه نحو الجنوب، لا خطوة ضمن مسار تحرير صنعاء.

 

وتدل المؤشرات الميدانية والسياسية، سواء عبر مواقف الإخوان في مأرب أو عبر تفاعلات التنظيم الدولي في بعض الساحات الإقليمية، على واقع جديد مفاده أن الجنوب انتقل من مربع تفاوض إلى مربع نفوذ، بينما انتقلت مأرب من مربع نفوذ إلى مربع “رد فعل”. هذا التحول البنيوي هو مفتاح قراءة خطاب العرادة؛ ليس خطاب رؤية وطنية، بل استجابة سياسية–عسكرية موجهة نحو منع تثبيت وضع جيوسياسي جديد لم يعد من الممكن تجاهله أو الالتفاف عليه.