"وادي حضرموت ساحة المعركة الأخيرة"..
تفكيك آخر معاقل الإخوان في الجنوب.. دلالات التحرك العسكري في حضرموت والمهرة
تتجه حضرموت نحو مرحلة حاسمة مع تحركات القوات المحلية لإنهاء آخر نفوذ عسكري لجماعة الإخوان في الجنوب، وسط تراجع الولاءات القديمة وتصاعد الدعم الشعبي والرسمي. وتكشف التطورات عن تحول إستراتيجي يشمل وادي حضرموت والمهرة، يهدف لإحلال قوات محلية، وقطع طرق التهريب الإيرانية، وإنهاء دور الإخوان والحوثيين في شرق اليمن.
الجنوب يعيد رسم حدوده الأمنية - اليوم الثامن
تتحرك القوات المحلية في حضرموت لإنهاء آخر معاقل نفوذ الإخوان في الجنوب، بعد تصاعد تمرد مسلح تقوده شخصيات قبلية مرتبطة بالجماعة في وادي حضرموت. ويأتي هذا التحول في لحظة مفصلية، إذ يشير مسؤولون محليون إلى أن المعركة تتجاوز البُعد الأمني، وتستهدف إنهاء وجود عسكري ظل قائمًا منذ حرب 1994، تمثله قوات المنطقة العسكرية الأولى المتمركزة في الوادي والصحراء.
تتجه الأنظار نحو كبرى محافظات الجنوب وأغناها بالموارد النفطية، حيث تقود جماعة الإخوان—وعبر تحالفات قبلية محلية—تمردًا ضد السلطات المحلية، في محاولة لعرقلة جهود تطبيع أمني وعسكري يجري العمل عليه منذ سنوات. وتقول السلطات إن هدف تلك الجهود هو وقف الهجمات الإرهابية وحوادث الاغتيال التي شهدها الوادي والصحراء، حيث تتمركز قوات يمنية تُعد آخر بقايا الجيش اليمني القديم، ولم تصلها عمليات عاصفة الحزم عام 2015، لكونها لم تخضع لسيطرة الحوثيين، وظلت مرتبطة بولائها باللواء علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى مدرع قبل تفكيكها في 2012 بقرار من الرئيس عبدربه منصور هادي.
قوات المنطقة العسكرية الأولى تضم تشكيلات ينتمي معظم أفرادها إلى محافظات عمران وصعدة وصنعاء، وهي مناطق تُعد المخزون البشري للحوثيين. ويقول محافظ حضرموت السابق مبخوت بن ماضي إن هذه القوات “عليها التوجه لقتال الحوثيين إذا كانت فعلًا ضد الانقلاب، أما إن كانت أقرب إليهم، فوجودها في حضرموت مرفوض”.
تمركزت هذه القوات في حضرموت منذ انتكاسة حرب 1994، حين سقطت المحافظة بأيدي القوات اليمنية بعد نحو شهر ونصف من إعلان الرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض قرار فك الارتباط من المكلا. وسقطت المدينة بعد مقتل اللواء صالح بن حسينون، وزير النفط في دولة الجنوب سابقًا وقائد معركة الدفاع عن حضرموت، في التاسع من يوليو 1994، أي بعد يومين من سقوط عدن.
وللحضارم موقف واضح تجاه هذه القوات التي دخلت المحافظة على ظهر الدبابات، وظل وجودها في الوادي والصحراء مصدر تهديد لمستقبل المحافظة، خصوصًا بعد نجاح تجربة القوات المحلية—قوات النخبة—التي دربتها الإمارات قبيل طرد القاعدة من المكلا في أبريل 2016.
ألوية ووحدات عسكرية كانت تنتشر في محافظات الجنوب، لكن حضرموت كانت النصيب الأكبر. غير أن تلك القوات انهارت في ليلة واحدة مع انطلاق عاصفة الحزم فجر 25 مارس 2015، حين انسحبت من ساحل حضرموت وسلّمته لعناصر القاعدة بقيادة خالد سعيد باطرفي (سعودي الجنسية). وظل الساحل تحت سيطرة التنظيم عامًا كاملًا، حتى نفذت قوات النخبة عملية عسكرية بدعم وإشراف إماراتي حررت خلالها كامل الساحل خلال فترة وجيزة.
ومنذ ذلك الحين، ظل أبناء حضرموت يطالبون بتطبيق التجربة نفسها في الوادي، لكن مطالبهم قوبلت بالمماطلة من التحالف والحكومة اليمنية. حاولت الشرعية امتصاص الضغوط بتعيين اللواء صالح الجعيملاني—قائد حراسة الرئيس هادي سابقًا—على رأس المنطقة، لكن النزعة العدائية داخل المنطقة العسكرية الأولى حالت دون أي تهدئة أو تسوية تسمح بإدماج قوات محلية مثل درع الوطن.
وفي نوفمبر 2024، أطلق أحد جنود المنطقة العسكرية الأولى النار على ضابط سعودي، ما أدى إلى مقتله ومقتل صف ضابط آخر وإصابة جندي بجراح بليغة، قبل أن يفرّ إلى مناطق الحوثيين. واعتُبرت العملية رسالة من جماعة الإخوان رفضًا لأي محاولة لدفع تلك القوات نحو مواجهة الحوثيين في محيط مأرب.
موّلت السعودية إنشاء قوات “درع الوطن”، وهي تشكيلات من أبناء حضرموت، لإحلالها مكان قوات المنطقة الأولى. لكن الأخيرة رفضت دخول هذه القوات إلى الوادي والصحراء وهددت بالحرب، كما فعلت التشكيلات الموالية لإيران وسلطنة عمان في المهرة، ما جعل المشهد أكثر توترًا.
وأمام هذا الوضع، أعلن وكيل حضرموت عمرو بن حبريش تمرده على السلطات المحلية، وبدأ بتشكيل مجموعات مسلحة تحت اسم “قوات حماية حضرموت”، وأسند لها قيادة عسكرية. غير أن الدعم الذي حصل عليه من أطراف إقليمية أثار مخاوف واسعة، خاصة بعد ظهور دعم إعلامي وسياسي من الإخوان والحوثيين لسرديته. وردّ العميد صالح بن الشيخ أبو بكر، المعروف بـ“أبو علي الحضرمي”، مؤكدًا أن ما يحدث “تمرد لن يُسمح بتمريره، وأن أمن حضرموت خط أحمر”.
الـ30 من نوفمبر، وبالتزامن مع الاحتفالات بالعيد الوطني للاستقلال، شهد وادي حضرموت تظاهرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف، رفعوا أعلام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية السابقة، مؤكدين تمسّكهم بمشروع إخراج القوات المحسوبة على الإخوان من وادي وصحراء حضرموت، واستكمال مرحلة تحرير ما تبقى من الأراضي الجنوبية من أي وجود عسكري يمني.
لقد أفرزت الحرب الانقلابية التي فجّرها الحوثيون قبل نحو عقد واقعًا جديدًا، أتاح للجنوبيين تحقيق مكاسب عسكرية واسعة في مواجهة الأذرع الإيرانية والتنظيمات الإرهابية. إلا أن الهدف الأبرز للمجلس الانتقالي الجنوبي – الذي يضم تحالفات سياسية ومجتمعية واسعة – يتمثّل في استعادة دولة الجنوب، ولكن باسم "الجنوب العربي"، وهو الاسم الذي كان قائمًا قبل الاستقلال عن بريطانيا بـ58 عامًا.
الاشتراكيون اليمنيون غيّروا اسم الدولة مرتين: إلى جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ثم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهي تسميات رفضها حزب رابطة الجنوب العربي الذي رآها مناقضة للهوية الوطنية الجنوبية. وظل الجدل قائمًا بين الجانبين لسنوات، قبل أن يوافق المجلس الانتقالي أخيرًا على رؤية الرابطة باعتماد اسم الجنوب العربي للدولة المنشودة.
بعض قيادات المجلس المنحدرة من الحزب الاشتراكي تتجنب إعلان موقف حاد من التسمية، لكنها وفق الوقائع السياسة باتت أقرب للقبول الضمني بها. وإلى جانب ذلك، تبرز تسمية أخرى مطروحة بقوة وهي "دولة حضرموت" التي تمتد من المهرة حتى باب المندب، غير أن عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، يؤكد أن مسألة التسمية ستُطرح للاستفتاء بعد تحقيق الاستقلال.
تمثّل حضرموت، بثقلها السياسي والقبلي والاقتصادي، الرافعة الرئيسية للحركة الوطنية الجنوبية. فالرئيس علي سالم البيض وضع الجزء الأكبر من جهوده السياسية في حضرموت، كما أن زعيم الحركة الوطنية الجنوبية في الداخل، حسن باعوم، ينتمي إليها، وهو الذي أمضى سنوات بين الاعتقالات والمحاكمات خلال مسيرة الحراك الجنوبي من 2007 إلى 2010.
وتتقدم شخصيات حضرمية عديدة اليوم مشهد العمل الجنوبي، أبرزها فادي باعوم، وعلي عبدالله الكثيري، فيما يُعدّ الجنرال أحمد سعيد بن بريك الشخصية الأكثر تأثيرًا داخل المحافظة، إلى جانب اللواء فرج سالمين البحسني، وكلاهما يشغلان مواقع قيادية في المجلس الانتقالي وفي مجلس القيادة الرئاسي.
موقف بن بريك والبحسني يسير في اتجاه واحد: إزاحة القوات العسكرية اليمنية من وادي وصحراء حضرموت، وإحلال القوات المحلية بدلاً عنها. البحسني عقد سلسلة لقاءات مع دبلوماسيين إقليميين ودوليين بهدف تعميم تجربة قوات النخبة الحضرمية على كامل تراب المحافظة. وفي هذا التوجّه، يتطابق موقفه مع موقف اللواء بن بريك الذي زار حضرموت في أبريل 2025.
وفي أبريل 2025، وبالتزامن مع الاحتفالات بذكرى تحرير ساحل حضرموت، وصل اللواء بن بريك إلى المكلا رغم ظروفه الصحية الصعبة. وفي عاصمة المحافظة أعلن أن مشاكل حضرموت ستحل من الداخل دون تدخلات إقليمية، دون أن يسمّي السعودية أو سلطنة عمان، رغم أن تقارير صحافية أشارت إلى احتمال دعم إحدى الدولتين لعمرو بن حبريش في تأسيس كيانات مسلحة.
بن بريك أكّد كذلك أهمية إعادة هيكلة حلف قبائل حضرموت على أساس مبدأ تدوير القيادة بين قبائل المحافظة، بدل احتكارها من شخصية واحدة لسنوات. وقد بدأت عملية الهيكلة فعليًا في أواخر نوفمبر الماضي، وأسفرت عن اختيار شخصية من قبائل آل كثير لرئاسة الحلف خلفًا لابن حبريش.
وتشير المعطيات إلى أن زيارة بن بريك وتحركات البحسني بدأت تؤتي نتائج واضحة، إذ تغض السعودية – التي ترعى تفاهمات عديدة داخل اليمن – الطرف عن التحركات العسكرية الجارية في وادي حضرموت، حيث تتحرك قوات النخبة، مسنودة بألوية العمالقة والدعم والإسناد، نحو الوادي.
وقد يستمر الوضع لأسابيع للوصول إلى صيغة تفاهمية تنهي وجود القوات العسكرية اليمنية في وادي وصحراء حضرموت، وهو ما يعني عمليًا أن ملف الإخوان المسلمين قد طوي في جنوب اليمن بشكل كامل.
فالخطوات التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرًا بتصنيف الإخوان جماعة إرهابية رفعت الحرج عن دول إقليمية – ومنها السعودية – التي ظلت تمسك العصا من المنتصف تفاديًا لانهيار معسكر الشرعية. اليوم تغيّر المشهد: الإخوان باتوا جماعة إرهابية أقرب إلى الحوثيين منها إلى المملكة التي موّلت إنشاء الجيش الوطني في مأرب. ومع ذلك، ظل الجيش يُدار وفق أجندة الإخوان، الذين تجنبوا المواجهة مع الحوثيين وحافظوا على قواتهم، تاركين عبء مواجهة الانقلاب على الرياض، التي اختارت في النهاية طريق التفاوض دون الحرب المفتوحة.
السيناريو المرجّح أن يتكرر ما يجري في حضرموت في محافظة المهرة؛ أي إخراج القوات اليمنية الموالية للإخوان من وادي وصحراء حضرموت ومن المهرة معًا. هذا المسار لا يقتصر على تغيير في خرائط السيطرة فحسب، بل يعني عمليًا قطع الطريق أمام تدخلات إقليمية بدأت تطفو إلى السطح.
وإذا كانت إيران تحاول تحقيق مكاسب عبر شبكة من التحالفات الإقليمية، فإن هذا التحرك يمنح المشهد بعدًا مختلفًا؛ فكما تقف حضرموت اليوم على أكتاف أحمد سعيد بن بريك وفرج سالمين البحسني، تقف المهرة على حضور شخصيتين بارزتين هما المحافظ السابق الشيخ راجح باكريت، والشيخ عبدالله عيسى بن عفرار، إلى جانب شخصيات قبلية وقيادية أخرى يُتوقّع أن تلعب دورًا محوريًا في المرحلة المقبلة.
تأمين المهرة ووادي حضرموت والصحراء يمثل إحدى أهم الأولويات الاستراتيجية عسكريًا وأمنيًا؛ فإحلال قوات محلية محل القوات اليمنية الموالية للإخوان لا يوجّه ضربة قاصمة للإخوان وحدهم، بل يطال الحوثيين أيضًا. فالأذرع الإيرانية تعتمد على تهريب الأسلحة والطائرات المسيّرة والمخدرات من الجانب الإيراني عبر منافذ برية وبحرية تقع على الحدود مع سلطنة عُمان، ما يجعل ضبط هذه الجغرافيا مكسبًا استراتيجيًا للعملية العسكرية الجارية، رغم تنفيذها ببطء محسوب لتجنّب المواجهة المباشرة.
في هذا السياق، يبدو خيار خروج القوات اليمنية من وادي وصحراء حضرموت والمهرة سلماً هو السيناريو الأقرب، مقارنة بخيار الصدام. أمّا إذا فُرض خيار المواجهة، فإن موازين القوة تميل لصالح القوات المسلحة الجنوبية، التي تمتلك تفوقًا نوعيًا في التسليح والتكتيك، مقابل آليات قديمة لدى الطرف الآخر، كثير منها خارج الخدمة، حتى وإن بدأت خلال الأيام الماضية عمليات صيانة محدودة لبعضها. الخيار المطروح عمليًا هو انتقال هذه القوات إلى مأرب أو تخوم العاصمة صنعاء استعدادًا لمعركة فاصلة مع الحوثيين لانتزاع العاصمة.
بهذا المعنى، يمكن القول إن اليمن القادم – وإن بدا في ملامحه الأولى عائدًا إلى صيغة "الدولتين السابقتين" – سيكون على الأرجح خاليًا من الإخوان والحوثيين معًا؛ وهما جماعتان إسلاميتان مسلحتان استخدمتا العنف للوصول إلى السلطة. غير أن هذا المسار ليس مضمونًا بالكامل؛ فإيران قد تحاول استثمار علاقاتها الإقليمية لفتح جبهات جديدة وتفجير الوضع عسكريًا. لذلك تبدو مسؤولية القيادة الجنوبية اليوم مضاعفة: حسم المعركة في وادي وصحراء حضرموت والمهرة سريعًا، قبل أن تتمكن الأذرع الإيرانية من توسيع نطاق الصراع وإرباك المشهد العسكري والسياسي برمّته.


