د. نعيمة عبدالجواد تكتب لـ(اليوم الثامن):

هل تفقدت أنفك اليوم: جوجول

الكل يعاني، بلا شك، والمعاناة تتفاوت من شخص لآخر ومن طبقة لأخرى؛ وبسبب تلك المعاناة، ينتاب الأفراد كوابيس كثيرة، قد تكون من محض الخيال أو مشتقَّة من الواقع الذي يحسبه الفرد أليم ولا يراعي متطلَّباته. قد يستهين البعض بما ينتاب الآخر من هواجس، بل وحتى قد يقلل من أهميتها، لكن المتَّفق عليه أنه لا يوجد فرد واحد على مرّ الزمان قد أراد أن يبدل مصيبته بمصيبة أي شخص آخر؛ وهذا لأن كل واحد قد علم الطريقة المُثلى للتعامل مع ابتلاءه. 

بيد أنَّ المصيبة التي تُرعب الجميع بلا استثناء هي تلك التي  تصيب الصحة أو الحالة الجسدية. وبالرغم من هذا، قد يعتاد الفرد والمجتمع على تواجد ذاك الابتلاء، أيضًا. ومع ظهور مسرح اللامعقول Theatre of the Absurd في خمسينات القرن الماضي، عمد الكتَّاب إثارة الضحك على المصائب المصاحب للارتعاد خوفًا من الكوابيس التي لا يمكن الخلاص أو حتى الفرار منها، ولو للحظات، كما قدَّمت مسرحيات "جون جينيه" Jean Genet و"يوجين يونسكو" Eugene Ionesco، وغيرهما من كتَّاب مسرح اللامعقول ومسرح القسوة Theatre of Cruelty. 

وقد يظنّ البعض أن "فراننتز كافكا" Franz Kafka هو من أرسى دعائم ذاك اللون الأدبي، وينظر إلى جميع أعماله التي تدور في فلك هذا الإطار، وبالأخصّ قصَّته القصيرة "التحوُّل" Metamorphosis  على أساس أنها نقطة الإنطلاق الحقيقية لمسرح اللامعقول وتوابعه، وهذا لتوافر عنصر الفكاهة الممزوج بالرعب الناجم من وضع كابوسي والسخرية من وضع الإنسان داخل مجتمعه. فعلى سبيل المثال، في قصة "التحوُّل" يصحو فرد من نومه فيجد نفسه قد تحوَّل إلى "صرصار"، ثم يسهب "كافكا" في وصف معاناة الفرد ومحاولاته الغير مُجدية للتأقلم مع واقعه الجديد المرير.

وبالبحث أكثر في أعماق الأدب العالمي، يُلاحظ أن احتفاء العالم بما تركه "كافكا" من ميراث أدبي فريد يعزى الفضل فيه لمعلِّمه الذي أثرى خياله وخيال كتَّاب وفنانين كُثُر ذاع صيتهم في دول مختلفة من العالم، وهذا المعلِّم هو الكاتب الروسي النابغة "نيكولاي جوجول" Nicholai Gogol (1809-1852) الذي كان سوء الحظ رفيق الدرب له، وكانت نهايته في ريعان شبابه أيضًا أكثر مأساوية من "كافكا". ولعل أبلغ دليل على سوء حظّه هو عدم اكتشاف ريادته لهذا الفن لقرون عديدة، مما أفسح المجال لجاره التشيكي "كافكا" لأن ينتشر على نطاق عالمي؛ ويعزى ذلك لأن "كافكا" كان انتاجه الأدبي مكتوبًا باللغة الألمانية، والتي كانت ترجمتها للإنجليزية والفرنسية أكثر تداولًا، لحد بعيد، من اللغة الروسية التي كتب بها "جوجول" أعماله.

وواحدة من أشهر أعمال "نيكولاي جوجول" التي تلقَّفها المجتمع الدولي عند ترجمتها، ناهيك عن الاحتفاء الكبير بها عندما قدَّمها في روسيا القيصرية عام 1836 كانت قصَّته القصيرة "الأنف" Hoc (باللغة الروسية)، والتي أعيد تقديمها في روسيا في شكل أوبرا عام 1930، وتناقلت بين عواصم ودول العالم أجمع فقدَّموها في شكل أفلام قصيرة وأفلام طويلة ومسرحيات، ومؤخَّرًا في شكل فيلم كارتون عام 2020. أضف إلى ذلك أن القصة تم تحويلها إلى مسرحية موسيقية فازت بجائزة "جرامي" Grammy عام 1990. ومن أهم الأسباب لهذا الاحتفاء العالمي لمجرَّد قصَّة قصيرة هو أنها ترقى لخليط غير مألوف من الأجناس الأدبية الممزوج بعبقرية مفرطة في الأسلوب السردي. وأضف إلى كل هذا، أنها تمزج بين أسس مسرح اللامعقول والجنس الأدبي الذي يسمَّى "كوميديا من أجل الكوميديا" أو ما يطلق عليه أيضًا "كوميديا  الفارْس"Farce Comedy. 

ولنقد المجتمع الروسي في ذاك الوقت بقسوة مفرطة، لم يلجأ "جوجل" إلى الرمزية الكابوسية التي تجعل القلوب تقطِّر دمًا، كما في قصته القصيرة "المعطف"، بل أنه وظَّف الرمزية ودمجها بعنصر اللامعقول الغريب Grotesque لكي يجعل المُشاهد والقارئ يضحك ويستمتع، وفي نفس الوقت، يفكِّر في المغزى الحقيقي للقصَّة التي تشبه الكابوس. وعلى الجانب الآخر، يقف الكاتب بعيدًا عن سير الأحداث ويترك التعليق بضمير الغائب على الأحداث أو شرح المواقف إلى راوي القصة، إلَّا أنَّ "جوجول" يطل في بعض الأحيان على أحداث القصة بصفته الكاتب؛ من أجل التعليق بسخرية على المواقف.

وقصَّة "الأنف" Hoc تقع في ثلاثة أجزاء وتدور حول الشخصية المحورية للأحداث، وهو الرائِّد "كوفاليوف"  Major Kovalayov الذي يستيقظ من نومه يومًا ليجد أن أنفه غير متواجدة في وجهه. والأغرب من هذا، أن البطل الضد في القصة هو الأنف ذاتها.

والجزء الأوَّل من القصة يلقي الضوء على حلَّاق يصحو بعد ليلة عاقر فيها الخمر ولا يتذكَّر ما حدث له فيها، وعند تقديم زوجته الفطور له، يهم بفتح الخبز الطازج، لكي يجد أنفًا بداخل الرغيف. دون أدنى شك، ترتعد الزوجة من وجودها، وتصرّ على وجوب تخلُّص زوجها من تلك الأنف بأقصى سرعة. وفي ذاك الوقت، يذهب الزوج إلى النهر ليلقي بالأنف، لكن يقبض عليه شرطيًا بعد إلقاء الأنف؛ لرغبة الشرطي في معرفة ماذا ألقى هذا الرجل في النهر.

وفي الجزء الثَّاني من القصة، يستيقظ الشاب المغرور "كوفاليوف" الذي يشغل رتبة مدنية لتقييم الأمور وترجمتها "المُقَيِّم الجامع"، لكنه يفضل أن يناديه الآخرين بالرتبة التي تقابلها في الحياة العسكرية، ألا وهي "رائد"، ويعزى السبب لأن الرُّتب العسكرية أرقى من نظيرتها المدنية وتنقل الفرد لمكانة اجتماعية أفضل. وهنا ينتقد "جوجول" وضع عامة الشعب الذين فتح لهم الإمبراطور الرَّاقي "بطرس العظيم" الإرتقاء في الحياة العسكرية والتمتُّع بالرتب التي كانت فيما سبق لا يمكن منحها إلَّا لطبقة النبلاء، وهذا على سبيل تحقيق المساواة بين جميع أفراد الشعب. لكن ما حدث هو أن كل من تمتَّع بتلك الرُّتب أصابه الجشع المصحوب بالغرور والتعالي على الآخرين. ويوضِّح "جوجول" هذا في سلوك "كوفاليوف" مع الحلَّاق الذي كان يكيل له السُّباب، ولم يدافع الرجل عن نفسه أو حتى يُظهر أمارات الامتعاض. وتظهر الجوانب الأخرى من شخصية "كوفاليوف" السيئة عند تعامله مع النساء اللائي ينعتهم بالساقطات، وعلاقته معهم تتلخَّص في أنه لا ينفك عن ملاحقتهم ويرغب في أن يصطحب كل من يغازلها إلى منزله. أضف إلى كل هذا، فإن هدفه الأوحد هو الإيقاع بإمرأة ثرية في حبائله ليتزوَّجها ويحظى بمكانة اجتماعية أكبر.

لكن صدمته المفجعة يتلقَّاها عندما يستيقظ من نومه ولا يجد أنفه عندما ينظر لوجهه في المرآة، وحينها يبدأ ينعي اختفائها، لا يهمه في الأمر إلَّا أن أنفه كانت جميلة وتكمل بهاء طلَّته التي يغوي بها الفتيات. ولهذا السبب يقرر أن يبحث عنها. وبعد أن يغطي وجهه بمنديل حتى لا يظهر نقصه، يذهب لقسم الشرطة ليبلغ عن أنفه المفقود، فيطرده الضابط؛ لأن بلاغه مستحيل الحدوث. فيتوجَّه لصحيفة لينشر إعلانًا عن ضياع أنفه، لكن الموظف يرفض أيضًا لغرابة الموضوع. وعند النزول للشارع مرَّة أخرى، يجد "كوفاليوف" أنفه تمر من أمامه وهي في طريقها للدخول إلى الكنيسة لتأدية الصلوات، لكنه يخشى الاقتراب منها، لأنها ترتدي بزَّة عسكرية لرتبة تفوق رتبته. ولا يقف غرابة الأمر عند هذا الحد، فالأنف تكبر وتصغر حسب المواقف، وتتخفَّى أيضًا في صورة طبيب. وحتى عندما يقبض رجل البوليس عليها، لا يستطيع الطبيب لصقها مرَّة أخرى في وجه "كوفاليوف"، وأخيرًا، ينصحه بالتخلِّي عنها ويعرض عليه شرائها بمبلغ مُرضي.

وفي تلك الأثناء، يحاول أيضًا "جوجول" تحويل غياب الأنف إلى كابوس مُزعج، وخاصة عندما يُقدَّم العُطاس إلى "كوفاليوف" ولا يستطيع استنشاقه لغياب أنفه. 

وتستمر الأحداث على ذاك المنوال اللامعقول والغريب، إلى أن يفتح الجزء الثالث من القصَّة على "كوفاليوف" الذي يستيقظ ليجد أنفه في محلَّها ويعلم أن كل ما مرّ به كان مجرَّد حلم. ونهاية القصة كانت مكتوبة ولكن بطريقة عبقرية؛ حيث أن "جوجل" قد ذكرها في في عنوان القصة نفسها وهي كلمة "Hoc" التي إذا تم قراءتها بطريقة عكسية تكون "Coh" وتلك الكلمة باللغة الروسية تعني "حلم".

ولقد اختار "جوجول" الأنف لأنها في الثقافة الروسية، والعديد من الثقافات العالمية، رمزًا للتعالي والتكبُّر وكذلك الكرامة. وأمَّا أحداث الرواية فهو يقصد بها إلقاء الضوء على التفاهة التي صارت نهجًا في المجتمع الروسي في ذاك الوقت، وكيف يعمل الموظفين الحكوميين على استغلال مناصبهم في قهر عامة الشعب.

لقد كان "جوجول" يردد دائمًا: "لا جدوى من إلقاء اللوم على المرآة إذا كان وجهك قبيحًا." ويقصد أنه لا يجب إلقاء كل اللوم على الظروف والمجتمع، فيجب على الفرد أوَّلًا أن يصلح من نفسه. والسبب الحقيقي في تقديمه الكوميديا المفرطة الممزوجة بالغريب واللامعقول هو إيمانه بأن "التمعُّن في التفكير الحذر في القصص التي تثير الضحك يجعل الفرد يُدرك أنها تثير الشعور بالحزن"، وهذا ما يستهدفه "جوجول" عندما يمتع قارئه، ثم يطلق له عنان أفكاره لنقد الأمور الغير سوية في المجتمع.

الأعمال العبقرية والكتَّاب الموهوبين لا تموت أعمالهم مهما تغيَّرت الظروف وتوالت الأزمنة، ولقد استطاع "جوجول" أن يحفر لنفسه تلك المكانة، ولا تزال قصته تحذِّر العالم الذي يمضي في طريق نهايته الندم من هجرة الأنوف.