رسل جمال تكتب لـ(اليوم الثامن):

حسابات وهمية ووجوه رمادية لا ملامح لها في الواقع

انها الفوضى الخلاقة الافتراضية فكلما اقتربت لحظة الانتخابات في العراق، ارتفع معها منسوب الحراك، واشتد التنافس بين القوى السياسية،ولكن ما يثير القلق اليوم ليس فقط شدة لتنافس التقليدي، بل انتقال المعركة إلى الفضاء  الرقمي المشبوه اذ  تُدار فيه أشرس الحملات الاعلامية التي تسقط هذا وترفع وتطبل لذاك حسب ما يدفع لها من اموال وهنا يطلّ السؤال الأخطر: من يقف وراء الحسابات الوهمية التي تبث سمومها بلا اسم ولا صورة؟
من المعروف ان تلك االقطعان من الحسابات المأجورة  لا تتحرك بعفوية ولا تُدار من شباب عابثين خلف الشاشات كما يتوهم البعض، بل تقف خلفها جهات منظّمة، تمتلك أجندة وتوقيتًا وأهدافًا مدروسة، عندما نجد دعوات صريحة على هذه المنصات لتدخل عسكري إسرائيلي في العراق، فهذا ليس مجرد رأي عابر، بل هو مشروع فوضى مدفوع الثمن، يستهدف كسر ثقة الشارع بنفسه وزرع اليأس والانقسام بين أبنائه.
إن ما نشهده يدخل في صميم الحرب النفسية الرقمية، حيث تُستخدم الخوارزميات وآليات إعادة تدوير المحتوى لخلق موجات مصطنعة من الغضب والخوف. تُبث الرسائل نفسها مئات المرات، عبر آلاف الحسابات المجهولة، لتصنع وهماً بوجود "رأي شعبي واسع"، وهنا تكمن الخديعة: نحن أمام هندسة وعي، لا أمام تعبير حقيقي عن وعي الشارع.
فنا يبث بالاعلام ليست اخبار بل هي اعادة برمجة للاذهان ، لان ما يحدث على ارض الواقع مختلف عنا تنقله وسائل الاعلام وتنشره مواقع التواصل ولمن يظن أن هذا جديد على منطقتنا، يكفي أن نتذكر أن الحرب النفسية ليست اختراعاً رقمياً، بل سلاح قديم أعيدت صياغته بلغة العصر. فخلال الحرب العالمية الثانية، كانت الجيوش تلقي منشورات من الطائرات على المدن لإضعاف معنويات الجنود والمدنيين.،وفي حرب فيتنام، استخدمت الولايات المتحدة الإذاعات الموجهة لبث رسائل اليأس والانقسام داخل المجتمع الفيتنامي، وفي زمننا الأقرب، رأينا كيف استُخدمت مواقع التواصل في "الثورات الملونة" وبعض بلدان الربيع العربي كأداة لحشد الشارع وصناعة رأي عام مشوّه يخدم أجندات خارجية.

الأخطر من كل ذلك أن هذه الحملات لم تعد تقف عند حدود العالم الافتراضي، بل تهدد بالانتقال إلى الواقع. فعندما يُشحن المواطن بخطاب خوف وتحريض وانقسام، لا بد أن ينعكس ذلك على سلوكه اليومي، وقد يتحول الأمر من مجرد تغريدات مكررة إلى احتكاكات في الشارع، وربما صدامات فعلية وهذا ما يجعل هذه الظاهرة ليست مجرد عبث رقمي، بل تهديدًا مباشرًا للأمن الوطني.
لكن الجريمة الكبرى ليست في الحسابات الوهمية بحد ذاتها، بل في الوجوه الحقيقية التي تديرها وتختبئ خلفها، من يفتح هذه الحسابات؟ من يمولها؟ من يضع استراتيجياتها؟ ومن يحدد ساعة انطلاق الحملات وموضوعاتها؟ هذه الأسئلة يجب أن تُطرح بجدية، لأننا أمام غرف عمليات رقمية تحاول اختطاف وعي الناس، وتشويه الحقائق، وتحويل الانتخابات إلى ساحة اقتتال افتراضي قد ينفجر في أي لحظة على الأرض.
الجهات التي تدير هذه الحسابات ترتكب خيانة بحق الشعب، لأنها لا تنافس بأفكار أو برامج، بل تستخدم أسلوب تسميم العقول وإشعال الأزمات. إنهم يدركون أن سلاح الإعلام الرقمي صار أكثر فتكًا من الرصاص، ولذلك يشهرونه بلا رحمة في وجه المجتمع كله.
إن ترك هذه الحملات تمر دون رصد أو محاسبة يعني التسليم لموجات الفوضى أن تتوسع وتتحول إلى واقع. المطلوب اليوم هو رصد منهجي لهذه الحسابات، وكشف ارتباطاتها الداخلية والخارجية، وتعريتها أمام الرأي العام. لأن الصمت عنها لم يعد خيارًا، والتهاون معها ليس إلا مشاركة في جريمة كبرى تُرتكب بحق الاستقرار الوطني.
الانتخابات يجب أن تبقى ساحة تنافس شريف، لا ميدانًا لحروب قذرة تُدار من وراء شاشات مظلمة. ومن يختبئ خلف حسابات وهمية ليدعو إلى تدخل خارجي أو يزرع الشك في نفوس الناس، إنما يعلن عداءه للعراق علنًا، حتى لو حاول التستر بستار "الرأي". فالخيانة لا يمكن أن تُغسل بشعار حرية التعبير، والعمالة لا تُبرر بشعارات زائفة
في الختام على المواطن ان يعي انه خط الدفاع الأول أيها المواطن، اعرف أن الحرب لم تعد تُخاض بالبنادق وحدها، بل تُدار اليوم في هاتفك، على شاشتك، وبين أصابعك. كل تغريدة تقرأها، كل منشور يمر أمامك، قد يكون جزءًا من مخطط لإضعاف ثقتك بنفسك وببلدك، وتغيير افكارك الراسخة والعبث بها فلا تمنح هذه الحسابات المجهولة سلطة على وعيك، ولا تجعل من نفسك وقودًا لمعارك قذرة يُراد لها أن تشتعل في الشارع.تذكّر أن الحساب الذي يزرع فيك الخوف قد يكون جالسًا في غرفة مظلمة خارج حدود بلدك، وأن الذي يدعوك إلى الكراهية والانقسام لا يريد لك خيرًا ولا حرية، سلاحك الحقيقي هو الوعي، وقدرتك على التمييز بين الرأي الصادق والدعاية المسمومة ،لا تساهم في إعادة نشر ما يثير الفتنة، ولا تكن أداة بيد من يتخفى خلف أسماء وصور وهمية، الوطن لا يحميه السلاح فقط، بل يحميه أيضًا عقل المواطن الواعي الذي يعرف متى يقول: "لا" للتضليل، و"نعم" للاستقرار والكرامة.