رسل جمال تكتب لـ(اليوم الثامن):
واقع السياحة الدينية في العراق وفرص استثمارها اقتصاديًا
يُعد العراق من أهم وجهات السياحة الدينية في العالم الإسلامي، إذ يحتضن مراقد مقدسة ومزارات رئيسية لأتباع المذهب الشيعي خصوصًا، فضلاً عن مواقع دينية لأديان وطوائف أخرى.
أبرز المزارات الشيعية تتركز في مدينتي كربلاء المقدسة (مرقد الإمام الحسين وأخيه العباس) والنجف الأشرف (مرقد الإمام علي)، إضافة إلى مراقد أئمة آخرين في بغداد (الكاظمية) وسامراء وغيرها. وتشهد هذه المواقع مناسبات دينية كبرى أهمها موسم عاشوراء وذروته يوم العاشر من محرم، ثم زيارة الأربعين (أربعينية الإمام الحسين) في العشرين من صفر، والتي تُعد إحدى أكبر التجمعات البشرية السنوية في العالم.
فقد بلغ عدد المشاركين في زيارة الأربعين لعام 2023 أكثر من 22 مليون زائر وفق إحصاءات العتبة العباسية، من بينهم ملايين الزوار من خارج العراق، فيما تجاوز العدد في عام 2024 نحو 23 مليونًا بينهم ما يفوق 5.2 مليون زائر أجنبي. إلى جانب ذلك، هناك زيارات دينية أخرى على مدار العام مثل زيارة عرفة ونصف شعبان وعيد الغدير وغيرها، ما يجعل التدفق البشري إلى المدن المقدسة شبه متواصل. وقد أعلنت وزارة الداخلية العراقية أن البلاد استقبلت حوالي 9 ملايين زائر من العرب والأجانب خلال عام 2023 وهو أعلى رقم منذ عقود، حيث جاء أكثر من 85% منهم بغرض زيارة الأماكن الدينية في النجف وكربلاء بالدرجة الأساس.
وتتصدّر إيران قائمة الجنسيات الأجنبية للزوار، تليها دول إقليمية وآسيوية مختلفة، مع إقامة أغلب الزوار لفترات تمتد من أسبوع إلى شهر. هذه الأعداد الضخمة تبرز المكانة الروحية الفريدة للعراق، إذ يتحوّل خلال المواسم الكبرى إلى مقصد لملايين المؤمنين الساعين لإحياء شعائرهم في رحاب مراقد الأئمة والأولياء. كما تجدر الإشارة إلى أن العراق يضم مواقع دينية مهمة لديانات أخرى، مثل مزارات أنبياء في بغداد ونينوى، ومرقد النبيين هود وصالح في النجف، فضلًا عن مواقع للديانة المسيحية (كنيسة الأقيصر في كربلاء، ودير مار متى قرب الموصل وغيرها) وللديانة الإيزيدية (معبد لالش في دهوك) التي يقصدها أتباعها وإن كان ذلك بأعداد أقل.
مساهمة السياحة الدينية في الاقتصاد الوطني
رغم أن العراق دولة ريعية يعتمد اقتصاده بشكل شبه كلي على النفط، بدأت السياحة الدينية تبرز في السنوات الأخيرة كمورد اقتصادي واعد يعوّل عليه لتنويع الاقتصاد. فقد أشارت بيانات رسمية إلى أن هذا القطاع ساهم بأكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي للعراق في السنوات القليلة الماضية، وهي نسبة تقارب مساهمة قطاعات تقليدية كـالزراعة والبناء. وبحسب وزارة التخطيط وهيئة السياحة العراقية، حققت السياحة الدينية إيرادات تزيد على 9 مليارات دولار في عام 2023 (شاملة العوائد المباشرة وغير المباشرة). يتأتى ذلك من إنفاق ملايين الزوار على المواصلات والإقامة والطعام والتسوق وخدمات أخرى. إذ يُقدَّر إنفاق الزائر الأجنبي الواحد بين 300-600 دولار للرحلة الدينية، بينما ينفق الزائر المحلي ما معدله 100-200 دولار. هذا الإنفاق الضخم ينعش الاقتصاد المحلي خصوصًا في مدينتي كربلاء والنجف حيث تشكّل السياحة الدينية عصب النشاط الاقتصادي للمدينة.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من القوى العاملة في كربلاء والنجف تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في قطاع مرتبط بالسياحة الدينية (فنادق، مطاعم، نقل، تجارة تجزئة، اتصالات، رعاية صحية وغيرها). وقد أدى تزايد الطلب من جانب الزائرين إلى ظهور المئات من المشاريع الصغيرة والمتوسطة الجديدة؛ فخلال عام 2024 وحده تم إنشاء ما يزيد عن 18 ألف مشروع صغير في هذا المجال. كذلك ترتبت آثار اقتصادية غير مباشرة مهمة، مثل زيادة الطلب على المنتجات المحلية (التمور، السجاد، التحف، وغيرها من الفنية والحرف التقليدية) لتزويد الزوار.
ومن مظاهر الأهمية الاقتصادية لهذا القطاع ما ذكره رئيس الوزراء العراقي مؤخرًا بأن السياحة (معظمها دينية) أصبحت تسهم بنحو 3% من الناتج المحلي، وتطمح الحكومة لرفع النسبة إلى 10% عبر خطط تطويرية مستقبلًا. وعلى صعيد المالية العامة، فإن رسوم التأشيرات ومبالغ تذاكر دخول المتاحف والمواقع الدينية ورسوم الخدمات يمكن أن تشكل مصدرًا إضافيًا للخزينة إذا ما أُحسن استثمارها. وبالفعل رصدت الحكومة في موازنة 2024 مبلغًا يقارب 620 مليون دولار لمشاريع تطوير البنى التحتية السياحية في كربلاء والنجف، بما في ذلك إنشاء 38 فندقًا جديدًا وتحسين الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي وغيرها، إدراكًا منها لأهمية تعزيز قدرات هذا القطاع كمورد اقتصادي مستدام.
التحديات التي تواجه استثمار السياحة الدينية
على الرغم من الزخم البشري الهائل الذي تشهده السياحة الدينية في العراق، إلا أن ترجمتها إلى عوائد اقتصادية تواجه جملة من التحديات والعقبات الهيكلية.
أولًا: ضعف البنية التحتية والخدمات – تعاني المدن المقدسة من قصور كبير في مرافق الإيواء والنقل والخدمات اللوجستية.
فعلى سبيل المثال، لا يتجاوز عدد الفنادق في كربلاء 450 فندقًا في حين تُقدَّر الحاجة بأكثر من 1000 فندق لتغطية مواسم الذروة؛ وفي النجف حوالي 250 فندقًا فقط مما لا يلبي الطلب خلال الزيارات الكبرى. هذا النقص يدفع كثيرًا من الزوار للإقامة في الخيام أو السرادق المؤقتة أو لدى مواكب الضيافة الأهلية، كما يخلق ضغطًا هائلًا على الخدمات الأساسية (كهرباء، ماء، صرف صحي) ويُرهق البنية التحتية للمدن أثناء المناسبات الحاشدة. شبكات المواصلات والنقل بدورها غير كافية لاستيعاب التدفق؛ إذ سُجّل خلال زيارة الأربعين 2023 دخول أكثر من 2.1 مليون زائر عبر منفذ زرباطية الحدودي مع إيران خلال أيام معدودة، مما اضطر الحكومة لنشر 4000 حافلة إضافية وتعزيز طاقة المطارات بنسبة 40%. وعلى الرغم من هذه الحلول الطارئة، يبقى هناك حاجة ماسة لاستثمارات ضخمة في توسعة المطارات وتحديث خطوط النقل البري وإنشاء سكك حديدية تربط المدن المقدسة وتحسن انسيابية حركة الزوار.
ثانيًا: قصور التنظيم والإدارة والتشريعات – يبرز تحدي ضعف التخطيط الإستراتيجي والتنسيق المؤسسي في إدارة ملف السياحة الدينية. فالمسؤوليات متشابكة بين جهات حكومية (وزارات السياحة والنقل والداخلية وغيرها) وبين الجهات الدينية المشرفة على العتبات (ديوان الوقف الشيعي وإدارات العتبات) التي قد تفرض أحيانًا ترتيبات خاصة بها.
هذا أدى إلى غياب رؤية موحدة لاستثمار هذه المناسبات بما يخدم الاقتصاد الوطني. فعلى سبيل المثال، لا تجني الدولة العراقية تقريبًا أي رسوم دخول (فيزا) من معظم الزوار الأجانب الذين يفدون خلال المناسبات الدينية، حيث تُمنح التأشيرات مجانًا أو بأسعار رمزية إكرامًا للزوار، خلافًا لما تفعله دول الجوار. كما أن الخدمات الأساسية كالطعام والسكن تُقدم غالبًا مجانًا أو بأسعار زهيدة جدًا عبر مواكب أهلية أو دعم حكومي للزوار الأجانب، مما يحرم الاقتصاد المحلي من إيرادات كانت ممكنة ويفاقم أعباء التكاليف على أصحاب الفنادق والمطاعم المحليين.
وقد اشتكى العديد من المستثمرين في قطاع الضيافة من تراكم الديون وفواتير الخدمات بسبب اضطرارهم لخفض الأسعار بشكل كبير تحت ضغط المنافسة المجانية، حتى أن بعض العتبات حددت سعرًا لليلة الواحدة للزائر الإيراني مثلًا بما لا يتجاوز 7 دولارات في فنادق كربلاء، بينما الأسعار في فنادق إيران أو السعودية خلال المواسم الدينية تفوق 300 دولار لليلة.
هذا الخلل أدّى إلى إغلاق كثير من الفنادق المحلية أبوابها لعدم تغطية التكاليف. من جانب آخر، استشراء الفساد وضعف الرقابة يمثل عقبة؛ إذ يُتهم هذا الملف بأنه مغنم لبعض الجهات التي تستفيد من الفوضى وانعدام الشفافية، سواء في منافذ الحدود أو في إدارة أموال الوقف والنذور. إن غياب إطار تشريعي وتنظيمي حديث للسياحة الدينية يحول دون مشاركة فاعلة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، حيث ما زالت إجراءات الاستثمار معقدة، والتراخيص بطيئة، وحماية المستثمر غير مضمونة بما يكفي في ظل البيروقراطية والفساد.
ثالثًا: التحديات الأمنية – على الرغم من التحسن الأمني النسبي في السنوات الأخيرة والذي أسهم في عودة أعداد الزوار إلى الارتفاع، إلا أن استدامة الأمن تبقى شرطًا أساسيًا لازدهار السياحة. فقد عانى العراق لعقود من الحروب والعنف (حرب الثمانينات، ثم الحصار وحرب 2003 وما تلاها، ثم حرب الإرهاب ضد داعش) ما جعل قطاع السياحة أحد أكبر الضحايا حيث انعدمت تقريبًا الوفود السياحية لفترات طويلة. ومع أن الوضع الأمني تحسّن كثيرًا، لكن أي اضطراب أو تهديد إرهابي قد يؤدي إلى عزوف الزوار الأجانب وخسارة الثقة سريعًا. ولا تزال بعض المناطق (مثل طريق بغداد-سامراء أو بعض أطراف كربلاء) بحاجة إلى تعزيزات أمنية مستمرة خصوصًا أثناء المناسبات الكبرى لحماية الحشود من أي مخاطر محتملة.
رابعًا: ضعف التسويق والترويج الدولي – لم يحظ العراق حتى الآن بحملة ترويج سياحية دولية حقيقية توازي مكانته الدينية. فمعظم الزوار يأتون بدافع عقائدي ذاتي أو بتنظيم من هيئات دينية خارجية، وليس عبر برامج سياحية وتسويقية احترافية. يفتقر العراق إلى مكاتب ترويج سياحي نشطة في العواصم الإسلامية والعالمية، وإلى محتوى إعلامي حديث يُبرز مواقع الحج العراقية بسهولة بعدة لغات. كذلك فإن إجراءات الحصول على التأشيرة ما زالت غير سلسة بما يكفي لبعض الجنسيات (باستثناء تأشيرات المناسبات الجماعية).
هذه العوامل تجعل العراق خارج قوائم الكثير من الحجاج المحتملين من بلدان بعيدة، والذين قد يفضلون وجهات أكثر تنظيمًا أو دعاية. يُضاف إلى ذلك صورة العراق الإعلامية التي ظلت لعقود مرتبطة بالحروب وعدم الاستقرار، ما يتطلب جهدًا لتغيير هذا الانطباع عالميًا وإبراز جوانب الأمن والضيافة المتوفرة حاليًا في المدن المقدسة. باختصار، هناك حاجة إلى استراتيجية إعلام سياحي مدروسة تستهدف العالم الإسلامي وغيره، تُعرّف العراق كوجهة روحية عريقة تتمتع بثراء تراثي، وهو ما أكدته دراسات محلية مؤخرًا.
دروس من تجارب دولية ناجحة في السياحة الدينية
يمكن للعراق الاستفادة من نماذج دول نجحت في توظيف السياحة الدينية لتنمية الاقتصاد، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وإيران والهند:
- تحتل السعودية المرتبة الأولى عالميًا في استقطاب المسلمين لأداء مناسك الحج والعمرة. نجحت حكومة المملكة عبر عقود في تحويل هذه الفريضة الروحية إلى رافد اقتصادي كبير في إطار خطط تنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط. إذ تشير التقديرات إلى أن عائدات الحج والعمرة تتجاوز 40 مليار ريال سعودي سنويًا (حوالي 10.7 مليار دولار) وفق معطيات 2024، وتُسهم بنحو 4% من الناتج المحلي السعودي بشكل مباشر – فيما تصل هذه النسبة إلى 7% من الناتج عند احتساب الإنفاق غير المباشر المرتبط بالقطاع.
- وقد استقبلت المملكة عام 2024 حوالي 18.5 مليون حاج ومعتمر على مدار العام، مع خطة طموحة في رؤية 2030 لرفع العدد إلى 30 مليون سنويًا. لتحقيق ذلك، ضخت السعودية استثمارات هائلة في توسعة الحرمين الشريفين وتطوير البنية التحتية في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف وغيرها، بما في ذلك مطارات حديثة وقطارات سريعة (مثل قطار الحرمين) وآلاف الفنادق والوحدات السكنية ومراكز التسوق. كما طبّقت أنظمة إدارة حشود متقدمة وضوابط صحية وأمنية صارمة لضمان سلامة الزوار، إلى جانب تسهيل إجراءات التأشيرة الإلكترونية للعمرة وتقديم تطبيقات ذكية (مثل تطبيق "نسك") لخدمة الحجاج. وبفضل هذه الجهود أصبح الحج محركًا اقتصاديًا شاملاً يُنشّط قطاعات النقل والإيواء والتجارة والتوظيف في المملكة.
- إيران: تعتبر إيران نموذجًا آخر بارزًا، حيث نجحت في تنشيط السياحة الدينية الداخلية واستقطاب الزوار من دول الجوار. مدينة مشهد شمال شرقي إيران – حيث مرقد الإمام علي الرضا (ثامن الأئمة لدى الشيعة) – تستقبل سنويًا ما يقارب 20 مليون زائر من داخل إيران وخارجها، ما جعلها العاصمة الدينية والسياحية الأولى في البلاد.
- تضم مشهد وحدها أكثر من 55% من إجمالي طاقة الفنادق في إيران، في مؤشر على حجم الاستثمار الفندقي والبنى التحتية الموجهة لخدمة الحشود. ويقصدها إضافة للإيرانيين، أعداد متزايدة من الزوار الخليجيين والباكستانيين والآذريين، خاصة بعد تحسين العلاقات الإقليمية مؤخرًا.
- وإلى جانب مشهد، هناك مدينة قم التي تُعد مركزًا دينيًا وتعليميًا يقصدها طلاب العلوم الدينية والزوار، وكذلك شيراز التي تحتضن مرقد شاه جراغ، مما يعزز خارطة السياحة الدينية في إيران. عائدات إيران من السياحة بشكل عام تصل إلى نحو 7 مليارات دولار سنويًا في السنوات الأخيرة، وتشكل السياحة الدينية جزءًا مهمًا منها – بل إن التقارير تفيد بأن الزوار العراقيين لوحدهم أدخلوا إلى الاقتصاد الإيراني ما يفوق 4 مليارات دولار خلال ستة أشهر فقط من عام 2025 عبر إنفاقهم على المواصلات والإقامة والتبضع والعلاج.
- هذا النجاح يعود إلى سياسات حكومية دعمت البنية التحتية (كتوسعة المطارات وبناء الفنادق ومشاريع المترو في مشهد وقم) وإلى تنظيم عملية استقبال الزوار عبر تأشيرات في المطارات وترتيب شركات سياحية رسمية. كما تستفيد إيران من المؤسسة الدينية (العتبة الرضوية/Astan Quds) في مشهد، وهي مؤسسة وقفية ضخمة تدير المرقد وتمتلك أصولًا اقتصادية كبيرة وظفتها في تطوير المدينة وخدمة الزوار. التجربة الإيرانية تبرز أهمية تكامل الدور الحكومي مع المؤسسات الدينية لإدارة الموارد وجذب الزوار، مع فرض رسوم معقولة على الخدمات توفر دخلاً للصيانة والتطوير.
- الهند: تعد الهند مثالاً مختلفًا حيث التنوع الديني الهائل، لكن السياحة الدينية (أو الروحية) تشكل ركيزة أساسية من قطاع السياحة هناك. تشير الإحصاءات إلى أن ما يزيد عن 60% من الرحلات السياحية داخل الهند هي ذات أغراض دينية أو روحية، سواء لحضور مهرجانات هندوسية كبرى أو زيارة المعابد والأضرحة. وقد سجّل قطاع السياحة الدينية في الهند 1.439 مليار زيارة في عام 2022 (معظمها زيارات محلية لمواقع مقدسة متعددة) وحقق إيرادات تقارب 1.34 تريليون روبية (نحو 16 مليار دولار) في ذلك العام.
- هذا القطاع الضخم يوفر ملايين فرص العمل ويساهم بقوة في الاقتصاد المحلي لولايات مثل أوتار براديش وبيهار وتاميل نادو التي تضم مواقع مقدسة (كـفارانايسي وبود غايا وراميشورام وغيرها). الحكومة الهندية أدركت أهمية هذا القطاع وأطلقت في 2017 مبادرة وطنية لتطوير البنية التحتية في مواقع الحج تُعرف باسم مشروع PRASHAD، ورصدت له مخصصات مالية لتحسين الطرق والمرافق وبناء مراكز خدمات في المدن.
- ومن أبرز الأحداث مهرجان كومبه ميلا الذي يقام كل بضعة أعوام بالتناوب في عدة مدن مقدسة ويستقطب عشرات الملايين (سُجل أكثر من 120 مليون زائر في كومبه ميلا 2019 في الله آباد)، وقد قدّرت حكومة ولاية أوتار براديش أن كومبه ميلا 2019 أدرت عوائد بنحو 3 تريليونات روبية (ما يعادل 40 مليار دولار) على المنطقة خلال فترة المهرجان. كما أن إعادة بناء معبد رام في أيوديا مؤخرًا رفعت عدد زوار المدينة من 6 ملايين سنويًا إلى 164 مليون في 2024. كل ذلك يؤكد أن الاستثمار في تأهيل المواقع الدينية وتسهيل الوصول إليها يمكن أن يحولها إلى محركات لتنمية محلية وجذب استثمارات في الفنادق والأسواق وتوليد وظائف لسكان تلك المناطق. التجربة الهندية تسلط الضوء أيضًا على إمكانية دمج التكنولوجيا الحديثة في إدارة الحشود (تطبيقات حجز تذاكر ورقمنة معلومات المواقع) وعلى دور الحكومات المحلية الفعال في الترويج وجذب الفعاليات الروحية الكبرى.
هذه الأمثلة المختلفة تبين أن السياحة الدينية يمكن أن تكون “نفطًا دائمًا” للدول إن أُديرت بحكمة، فهي مورد متجدد لا ينضب مادامت المعتقدات راسخة والطقوس قائمة. فالسعودية جعلت الحج رافعة اقتصادية وواجهة عالمية، وإيران عبأت مواردها الدينية لتنشيط اقتصاد مدنها وجذب العملة الصعبة، والهند سخّرت تنوعها الروحي في تعزيز اللحمة الوطنية وتحريك عجلة الاقتصاد المحلي. والعامل المشترك بين هذه التجارب هو وجود إستراتيجية واضحة واستثمار في البنية التحتية وتنظيم الخدمات ومواءمة الجوانب الروحية مع الاعتبارات الاقتصادية، دون إخلال بحرمة الشعائر.
فرص تنمية قطاع السياحة الدينية في العراق
بالنظر إلى الواقع الراهن، يملك العراق فرصًا كبيرة غير مستغلة لتحويل سياحته الدينية إلى رافد اقتصادي أساسي يفوق بأهميته الكثير من القطاعات التقليدية. من أبرز هذه الفرص:
- تعظيم دور القطاع الخاص والشراكات الدولية: إن إشراك المستثمرين المحليين والأجانب في تطوير المنشآت والخدمات السياحية يمكن أن يحدث نقلة نوعية. حاليًا، معظم خدمات الإطعام والإيواء خلال الزيارات تدار من قبل مواكب تطوعية أو جهود حكومية محدودة، بينما يمكن للقطاع الخاص أن يساهم بتشييد فنادق حديثة ومطاعم ذات قدرة استيعابية كبيرة، وتنظيم حملات سياحية احترافية. قد يكون من المجدي تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر عبر حوافز وتسهيلات (كإعفاءات ضريبية وتمليك الأراضي بأسعار تشجيعية في المناطق المقدسة) لاستقطاب شركات فندقة عالمية أو شركات نقل عملاقة للعمل في كربلاء والنجف. كذلك يمكن بناء شراكات مع دول إقليمية تمتلك خبرات في إدارة الحشود الدينية، مثل التعاون مع السعودية لتبادل الخبرات في أنظمة التفويج الإلكتروني للحجاج، أو مع إيران في مجال تنظيم مواكب الزوار، وأيضًا الاستفادة من تجارب الهند في تطوير مواقع سياحية دينية متعددة الأديان.
- التطوير الحضري الشامل للمدن المقدسة: ما زالت كربلاء والنجف على وجه الخصوص مدينتين تقليديتين لم تشهدا طفرة تطوير تتناسب مع حجم الطلب عليهما. فرصة سانحة أمام الحكومة لإطلاق مشروعات إعمار كبرى تشمل توسيع الشوارع وإنشاء طرق سريعة تحل مشكلة الاختناقات وقت الذروة، وبناء محطات نقل حديثة (محطات حافلات وقطارات) تسهل وصول ومغادرة الزوار، فضلاً عن تطوير محطات الطاقة وشبكات المياه والصرف الصحي بما يتلاءم مع الأعداد المليونية. ويمكن التخطيط لإنشاء مناطق خدمات متكاملة خارج مراكز المدن لاستقبال وخدمة الزوار (تشبه مدن الحجاج في السعودية)، تتضمن مرافق إيواء اقتصادية ومطاعم ومراكز صحية ومواقف كبيرة للحافلات والسيارات، مما يخفف الضغط عن وسط كربلاء والنجف أثناء المناسبات. لقد بدأت بوادر ذلك مع تخصيص موازنة 2024 لمشاريع البنية التحتية في كربلاء والنجف، وينبغي توسيع هذه الجهود باستمرار. كما أن تطوير المداخل الحدودية والمطارات (مثل مطار النجف الدولي ومطار كربلاء المزمع إنشاؤه) بالتعاون مع شركات عالمية سيحسن من تجربة الوصول للزوار ويزيد الطاقة الاستيعابية.
- تدريب الكوادر وبناء قدرات سياحية متخصصة: توجد حاجة ملحة لإعداد موارد بشرية مؤهلة للعمل في قطاع السياحة الدينية. ويمكن الاستثمار في إنشاء معاهد أو كليات متخصصة (على غرار كلية العلوم السياحية في جامعة كربلاء) لتخريج متخصصين في إدارة الفنادق وإرشاد الزوار وإدارة الفعاليات الدينية. كما يمكن تنظيم دورات تدريبية قصيرة لأصحاب المواكب الحسينية والمتطوعين لتعريفهم بأساسيات التعامل مع الزائر الأجنبي (خصوصًا فيما يتعلق باللغة والثقافة) بما يجعل تجربته أكثر يُسرًا. وينبغي تشجيع تعلم اللغات (كالإنجليزية والفارسية والأردية) بين العاملين في القطاع الخدمي في كربلاء والنجف حتى يتمكنوا من التواصل مع الجنسيات المختلفة. إن رفع جودة الخدمة المقدمة – من نظافة وإرشادات وضبط للأسعار – سيشجع الزائر على تكرار الزيارة وإطالة مدة إقامته، مما يعني إنفاقًا أكثر في الاقتصاد المحلي. ولا بد أيضًا من توفير تدريب على إدارة الحشود وفرق طوارئ للتعامل مع الحالات الطبية أو الأمنيّة خلال التجمعات المليونية، وهذا كله يندرج ضمن بناء قطاع سياحي احترافي.
- تنويع المنتجات السياحية المرتبطة بالزيارات: حاليًا يقتصر إنفاق معظم الزوار على الأساسيات (أكل، سكن، نقل)، لكن هناك مجال لتطوير صناعات وخدمات سياحية تزيد من العائد الاقتصادي. على سبيل المثال، يمكن إنشاء أسواق تراثية قرب المراقد تبيع منتجات حرفية عراقية (كالسجاد اليدوي، المصوغات، التحف البغدادية، العباءات العربية، كتب دينية وتراثية بلغات عدة) لتشجيع الزائر على شراء تذكارات وهدايا، مما يدعم الحرفيين المحليين. كذلك يمكن تطوير برامج سياحية متكاملة تعرض على الزوار جولات في مواقع أثرية وتاريخية أثناء وجودهم بالعراق – فالكثير من الحجاج قد يرغبون بزيارة آثار بابل أو أور أو سامراء (الملوية) إذا توفرت لهم باقات سياحية آمنة ومنظمة أثناء فترة تواجدهم، وهذا يربط بين السياحة الدينية والثقافية وينعش مناطق أخرى خارج كربلاء والنجف. أضف إلى ذلك إمكانية الترويج لـالسياحة العلاجية في مدن الفرات الأوسط؛ فكثير من الزوار الإيرانيين والباكستانيين قد يستفيدون من الخدمات الطبية العراقية أثناء زيارتهم (كما يحدث بالعكس حاليًا)، وهذا يتطلب تطوير المستشفيات والمراكز الصحية في تلك المدن والاستثمار فيها.
- الاستفادة من الموارد الوقفية والأموال الدينية لتنمية محلية: يملك العراق شبكة واسعة من الأوقاف الدينية والمزارات التي تتلقى تبرعات ونذورًا بمبالغ ضخمة سنويًا، ولكن أثرها الاقتصادي المحلي محدود حاليًا. توجد فرصة لدى ديواني الوقف (الشيعي والسني) وإدارات العتبات لتوجيه جزء معتبر من هذه الموارد نحو تمويل مشاريع خدمية وتنموية في المدن التي تقع فيها المراقد، مثل بناء مستشفيات ومرافق عامة أو تمويل صناديق قروض للمشاريع السياحية الصغيرة أو المساهمة في تدريب الكوادر. هذا الأمر يعزز التكامل بين الهدف الروحي والخيري لهذه الأموال وهدف التنمية الاقتصادية، ويضمن أن تبقى "بركات" الزائر وكرمه تدور في فلك الاقتصاد العراقي المحلي بدل أن تتسرب خارجه. وقد طالب مختصون بضرورة وجود رقابة حكومية وإدارة شفافة لهذه الموارد وتوحيد إشراف الدولة عليها لضمان استخدامها في الداخل.
باختصار، يمتلك العراق كل المقومات ليكون وجهة سياحية دينية عالمية شاملة تستقطب ليس فقط أتباع المذهب الشيعي بل الزوار من مختلف الأديان، إذا نجح في اغتنام هذه الفرص الكامنة عبر التخطيط السليم والاستثمار الذكي في الإنسان والمكان.
توصيات لتعظيم العوائد الاقتصادية للسياحة الدينية
في ضوء ما تقدم، إليكم أبرز التوصيات العملية التي يمكن أن تتبناها الجهات المعنية في العراق لتعظيم الفائدة الاقتصادية من السياحة الدينية، مع الحفاظ على قدسية الشعائر وخصوصية الثقافة المحلية:
- تبني إستراتيجية وطنية متكاملة للسياحة الدينية: على الحكومة وضع خارطة طريق شاملة (بالتعاون بين وزارات السياحة والداخلية والنقل والأوقاف والحكومات المحلية) تحدد رؤية واضحة لهذا القطاع وأهدافًا قابلة للقياس. هذه الإستراتيجية ينبغي أن تعالج الجوانب التنظيمية والتمويلية والتسويقية، وتوزيع الأدوار بين الجهات الحكومية والدينية والقطاع الخاص، لضمان عمل الجميع بتناغم نحو هدف واحد.
- تحديث السياسات التأشيرية والرسوم على الزوار الأجانب: من الضروري فرض رسوم تأشيرة معقولة على الزوار الأجانب تدخل ضمن إطار قانوني شفاف. على سبيل المثال يمكن تحديد رسم التأشيرة بمبلغ ثابت (لنقل 100 دولار للشخص في الأيام العادية، يرتفع إلى 150 دولار في موسم الزيارات الكبرى كالأربعينية) لجميع الجنسيات بدون استثناء. هذا الإجراء سيحقق إيرادًا مباشرًا مهمًا للموازنة (تُقدر بنصف مليار دولار سنويًا إذا دخل 5 ملايين زائر أجنبي برسوم 100 دولار)، ويمكن تخصيص جزء منه لتحسين الخدمات في المدن الزائرة. ويجب تسهيل دفع هذه الرسوم إلكترونيًا مقدّمًا عند تقديم طلب التأشيرة أو عند المنافذ، مع تحسين إجراءات منح التأشيرة لتصبح أكثر سلاسة وسرعة (اعتماد التأشيرة الإلكترونية أو عند الوصول مقابل الرسم المحدد). إن تطبيق الرسوم على الزوار الأجانب أمر متبع عالميًا ولن يشكل عائقًا كبيرًا ما دام في نطاق معقول، خاصة وأن الكثير من هؤلاء الزوار يدفعون مبالغ أكبر للحصول على تأشيرات لدول أخرى.
- إلزامية الدفع مقابل الخدمات للأجانب وتنظيم الدعم المجاني: يجب إعادة النظر في سياسة مجانية الخدمات المقدمة للزوار غير العراقيين. فمن المناسب إيقاف الدعم المجاني الممنوح للزوار الأجانب من ميزانية الدولة أو أموال الوقف، بحيث تصبح الخدمات (كالسكن والطعام والنقل الداخلي) متوفرة وفق نظام تجاري عادل يدفع الزائر الأجنبي مقابلها. يمكن ترك مجال لاستمرار المواكب والمضايف المجانية مخصصة لخدمة الزوار العراقيين والفقراء فقط، بينما يتم توجيه الزوار الأجانب عبر مسارات خاصة إلى مرافق تجارية (فنادق، مطاعم، مواصلات) يستفيد منها الاقتصاد المحلي. هذا الفصل بين مسارات الضيافة المجانية والمحطات التجارية يتطلب تخطيطًا مسبقًا وتنظيمًا أمنيًا واقتصاديًا محكمًا، لكنه سيضمن دوران أموال الزوار داخل العراق بدل تسربها أو ضياع فرصة تحصيلها. كما يُنصح بتشجيع القطاع الخاص المحلي على تقديم خدمات منافسة وذات جودة للزوار (بدل اقتصارهم على الخدمات المجانية محدودة الجودة)، مما يخلق جوًا من المنافسة التي تحسّن مستوى الخدمة عمومًا وتنعش الاقتصاد. من جهة أخرى، يمكن إلزام البعثات والزوار الأجانب بحجز حد أدنى من الليالي في فنادق محلية عبر وكالات معتمدة، أو شراء باقات خدمات من شركات سياحة عراقية، كشرط لمنح التأشيرة الجماعية مثلاً، لضمان مساهمتهم في الاقتصاد الوطني بشكل مباشر.
- تكثيف جهود التسويق والترويج العالمي: لا بد من إطلاق حملات ترويجية مدروسة تستهدف الجمهور الإسلامي والعالمي لتعريفهم بكنوز العراق الدينية والتراثية. يمكن لهيئة السياحة بالشراكة مع وزارة الخارجية ودواوين الأوقاف إنتاج مواد فيلمية وإعلانية احترافية بعدة لغات (العربية والإنجليزية والفارسية والأوردية والتركية والفرنسية وغيرها) تُبرز مشاهد الزيارات المليونية وروحانياتها، وكذلك توفر معلومات عملية عن زيارة العراق (التأشيرة، الأمن، الخدمات المتاحة). وينبغي إنشاء بوابة إلكترونية موحدة للسياحة في العراق، تقدم خدمة حجز الفنادق والمواصلات والجولات إلكترونيًا، وتكون مرتبطة بتطبيق هاتفي ذكي يمكن للزائر استخدامه قبل وخلال زيارته للحصول على الإرشادات والتوجيهات. كما يمكن تنظيم مؤتمرات ومعارض سياحية دولية يشارك فيها العراق للترويج لمدنه المقدسة وجذب وكالات السياحة الدينية العالمية لوضع العراق ضمن برامجها. كذلك من المفيد دعوة شخصيات مؤثرة دينيًا وإعلاميًا من مختلف الدول لزيارة كربلاء والنجف ونقل الصورة الإيجابية عن كرم الضيافة والأمان والتنظيم في هذه الزيارات، فذلك أبلغ تأثيرًا في كسب ثقة الجمهور الخارجي.
- تعزيز التنسيق والحوكمة الرشيدة للقطاع: يستلزم الأمر إصلاح البنية المؤسسية لإدارة السياحة الدينية. يمكن إنشاء هيئة عليا أو مجلس وطني للسياحة الدينية يضم ممثلين عن كل الجهات ذات الصلة (الأمن، النقل، السياحة، الصحة، الأوقاف، المحافظات، القطاع الخاص) لضمان التنسيق وتوحيد القرار. هذه الهيئة تتولى التخطيط للمواسم قبل حلولها بفترة كافية، وتعمل كغرفة عمليات أثناء الزيارة، وتملك صلاحيات تنفيذية لضبط أي خلل سريعًا. كما ينبغي تعزيز الشفافية ومحاربة الفساد في منافذ الدخول وفي إدارة الأموال المرتبطة بالقطاع. إن وجود نظام محاسبي دقيق وإعلان دوري عن إحصاءات الإيرادات والمصروفات وعدد الزوار سيساعد في تقييم الأداء وتصحيح المسار. وعلى الحكومة أيضًا بسط سيطرتها على جميع المنافذ الحدودية وتوحيد إجراءاتها، بما فيها منافذ إقليم كردستان، لضمان تسجيل جميع الوافدين وضبط تحصيل الرسوم ومنع أي تهرب مالي أو تلاعب. وبالتوازي مع ذلك، يجب تحديث القوانين المتعلقة بالاستثمار السياحي وتبسيطها، ومنح حوافز خاصة للاستثمار في المشاريع السياحية الدينية (مثلاً إعفاء أرباح الفنادق الجديدة من الضرائب لسنوات محددة، أو توفير قروض ميسرة لإقامة مشاريع خدمية في كربلاء/النجف)، وذلك لجذب المزيد من رؤوس الأموال إلى هذا القطاع.
- الموازنة بين الاعتبارات الروحية والعوائد الاقتصادية: أخيرًا، من المهم التأكيد على أن أي خطوات لتعظيم العائد الاقتصادي يجب ألا تُفقِد الزيارات الدينية روحانيتها وخصوصيتها الثقافية. فمثلاً، فرض الرسوم يجب أن يتم بطريقة لا تشعر الزائر بأنه يُستغل تجاريًا في شعيرة دينية، بل كإجراء معتاد لخدمة الزوار أنفسهم عبر تحسين البنية التحتية. وكذلك تنظيم مسارات الخدمات التجارية يجب أن يراعي إتاحة الفرصة لمن يرغب بالخدمة المجانية (خصوصًا من الفقراء) دون عائق، وفي الوقت نفسه يوجه من يستطيع الدفع نحو القنوات المناسبة بسلاسة واحترام. الحفاظ على تقاليد المواكب الحسينية التي تقدم الطعام والشراب مجانًا أمر مهم اجتماعيًا ودينيًا، ويمكن إبقاؤه مع توجيهه بشكل مدروس ليخدم المواطنين المحليين أساسًا، بينما يُنصح الزائر الأجنبي بالاستفادة من الخدمات مدفوعة الثمن الأفضل تنظيمًا. كذلك ينبغي مراعاة أن بعض الزوار قد يشعرون بحساسية من الإفراط في المظاهر التجارية قرب المراقد، لذا يجب تنظيم الأنشطة التجارية بحيث لا تقتحم حرمة الأماكن المقدسة (مثلاً يمكن تخصيص أماكن للأسواق تبعد بضعة مئات الأمتار عن صحن المرقد، والحفاظ على جو من السكينة بالقرب من الأضرحة). باختصار، المطلوب هو تحقيق توازن: فنعم لاستثمار السياحة الدينية بما يدر النفع الاقتصادي العام، ولكن دون أن يتحول الأمر إلى استغلال جائر أو أن يُفقد الزيارة قيمتها الروحية التي هي أساس جذب الناس إليها.
ختامًا، إن السياحة الدينية ثروة عراقية فريدة تفوق قيمتها المادية مجرد الأرقام، فهي رابطة روحية وإنسانية تجمع ملايين البشر على أرض العراق. لكن استثمار هذه الثروة بعقلانية سيحوّلها أيضًا إلى قوة اقتصادية ناعمة تساهم في ازدهار المدن المقدسة وتحسين معيشة أهلها، بل وتدعم الاقتصاد الوطني ككل. العراق اليوم أمام فرصة تاريخية – وربما أخيرة – لتنويع اقتصاده عبر هذا المورد المستدام، وتقليل الارتهان لتقلبات أسواق النفط. وكما قيل في أحد التقارير المحلية: العراق ليس بلدًا فقيرًا بل بلدٌ منهوب، يمتلك من المقومات الروحية والدينية ما يكفي لتحويله إلى قبلة سياحية عالمية، لكن ذلك يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وخطط مدروسة وإدارة نزيهة؛ وإلا سنبقى كمن يملك كنزًا ثمينًا لكنه يعيش فقيرًا مبعثر الموارد. فهل ينجح العراق في إحياء كنزه الروحي وتحويله إلى ازدهار اقتصادي يعم بالنفع على أبنائه، دون أن يمس قدسية هذه الشعائر ووهجها الإيماني؟ الإجابة رهن أفعال السنين القادمة وإرادة صانعي القرار اليوم.