الحرب الروسية الأوكرانية..

واشنطن.. هل أصبحت عاجزة على إجبار طهران العودة إلى دائرة المفاوضات النووية؟

الحرب الروسية الحالية في أوكرانيا لم تكن وليدة الصدفة وإنما هي بدأت منذ استيلاء موسكو على «شبه جزيرة القرم» عام 2014، وخذلت واشنطن حينها كييف، فلم تبادر الدول الغربية عامة والولايات المتحدة خاصة بتلبية طلب رئيس أوكرانيا آنذاك «بترو بوروشينكو».

دنيا عبد القادر
واشنطن

لم يكن الرئيس الأمريكي «جو بايدن» دقيقًا في وصفه حينما رفع شعار «أمريكا عادت» معلنًا بذلك عودة الولايات المتحدة إلى الساحة العالمية. فلقد أثبتت عدد من القضايا العالمية أن الولايات المتحدة أصبحت تتراجع تدريجيًا حتى أصبحت المؤشرات الحالية تنبئ بنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تتراجع فيه هيبة واشنطن لصالح أقطاب أخرى على رأسها التنين الصيني والدب الروسي كأقطاب أساسية ستشكل عالمًا جديدًا تسوده مبادئ مغايرة للنسر الأمريكي. وفيما يلي أبرز تلك القضايا:

الحرب الروسية في أوكرانيا

«روسيا وحدها هي المسئولة عن الموت والدمار الذي سيحدثه هذا الهجوم، وسترد الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها بطريقة موحدة وحاسمة. وسيحاسب العالم روسيا». هكذا كان أول رد للرئيس الأمريكي «جو بايدن» على الغزو الروسي في أوكرانيا، الذي بدأ في 24 شباط/فبراير الماضي. اتبعت الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ ذلك الوقت سياسة العقوبات؛ لكن حتى الآن ومع دخول الحرب في شهرها الخامس لا توحي تلك السياسة بأي تقدم يُذكر لصالح الجانب الأوكراني، الذي تؤيده واشنطن وشركاؤها. لقد غفلت الإدارة الأمريكية عن أن أعداءها لهم حلفاء آخرون سيكونون بمثابة منفذًا للالتفاف حول هذه العقوبات. فليس كل عدو لواشنطن هو عدو لباقي دول العالم.

لم تزد العقوبات الأمريكية والغربية الدب الروسي إلا إصرارًا على استكمال الحرب والاستمرار في التصعيد فضلاً عن أن تلك العقوبات عرضت الاقتصاد الأمريكي، وجهود الإدارة لتعافي الاقتصاد من تبعات الجائحة، وكذلك الاقتصاد العالمي، لمزيد من الأزمات مع ارتفاع أسعار النفط، وهي زيادة سيستفيد منها الاقتصاد الروسي، وسط غياب أي توقعات بزيادة الإنتاج. بالإضافة إلى قفز معدل التضخم السنوي للولايات المتحدة لأعلى مستوى له منذ 40 عامًا خلال حزيران/يونيو الماضي بنسبة 9,1% مقابل 8,8% شهر أيار/مايو الفائت، ليسجل أعلى وتيرة للتضخم منذ كانون الأول/ديسمبر 1981.

التباطؤ في مساعدة كييف

لقد تعاملت واشنطن ببطء أثناء أزمة القرم وتجنبت حينها تقديم أي مساعدات عسكرية فتاكة، واكتفت فقط بتقديم المساعدات الأمنية لأوكرانيا؛ تخوفًا من أن يؤدي تقديم أي مساعدات عسكرية إلى مواجهة مباشرة بين الدب الروسي والنسر الأمريكي. وهو نفسه السبب الذي يفسر استمرار تباطؤ واشنطن حتى اليوم في تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى لقاذفات صواريخ «هيمارس» التي سلمتها مؤخرًا إليها. إذ تتخوف الولايات المتحدة من أن القوات الأوكرانية قد تستخدم الأسلحة الأمريكية لمهاجمة أهداف على الأراضي الروسية، مما يهدد بمزيد من التصعيد في الصراع.

الانسحاب من كابل محفز لـ«بوتين»

ما زال مشهد إقلاع الطائرات الأمريكية، وعلى متنها القوات العسكرية الأمريكية إيذانًا بالانسحاب، ومحاولة بعض الأفغان التشبث بأجنحة الطائرات، عالقًا بالأذهان، خاصة عندما تركت واشنطن وراءها حلفاءها الأفغان داخل كابل ليواجهوا مصيرًا مجهولًا مع طالبان. لقد كان هذا الانسحاب بمثابة انتصارًا سهلًا لحركة «طالبان» وإثباتًا لفشل الولايات المتحدة في التوصل إلى حل، بعد عشرين عامًا من الحرب. أدى هذا الانسحاب إلى إثارة القلق لدى حلفاء واشنطن الذين شعروا أن عليهم إيجاء حليف أو عدة حلفاء كبديل عن الحليف الأمريكي لا سيما الدول الخليجية.

بل وصل الأمر إلى أن الجمهوريين والرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» أرجعوا أحد أهم أسباب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى ارتكاب إدارة «بايدن»، سلسلة من الأخطاء الفادحة في السياسة الخارجية مهدت الطريق للغزو الروسي لكييف مستشهدين بالانسحاب من أفغانستان. وسبق أن قال زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور «ميتش ماكونيل» إن «بوتين» لم يكن ليتجرأ على إرسال ما يزيد عن 150 ألف جندي إلى الحدود الأوكرانية لولا الانسحاب الأمريكي المتعجل من أفغانستان.

تايوان و«الغموض الاستراتيجي»

حينما سُئل «بايدن»، في 23 أيار/مايو الماضي، خلال مؤتمر صحفي بالعاصمة اليابانية، طوكيو، عما إذا كانت واشنطن ستتدخل عسكريًّا إذا غزت الصين تايوان، أجاب: «نعم، إنه التزام قطعناه على أنفسنا». لكن ما أن قال الرئيس الأمريكي تلك التصريحات إلا سرعان ما أقدم مسؤولون أمريكيون على توضيح أن الالتزام الذي قصده «بايدن» لا يُمثل خروجًا على الإطلاق عن السياسة الأمريكية طويلة الأمد، بشأن تايوان، المعروفة باسم سياسة «الغموض الاستراتيجي». ولعل سرعة توضيح المسؤولين الأمريكيين لتصريحات «بايدن» يثبت مدى القلق الأمريكي من إثارة غضب بكين.

على الرغم من مساعدات وزيارات واشنطن الأخيرة لتايوان، التي تتمتع بحكم ذاتي وتتخوف دائمًا من إمكانية تعرضها لغزو صيني، إلا أن هذا لا يعني أن هناك رغبة أو قدرة أمريكية على مواجهة التنين الصيني مباشرة. ففي عام 2018 صدر تقييمًا بتكليف من الكونجرس حذر من أن الولايات المتحدة قد تواجه «هزيمة عسكرية حاسمة» في الحرب على تايوان، لافتًا إلى قدرات الصين المتقدمة بشكل متزايد والصعوبات اللوجستية التي تواجهها الولايات المتحدة.

كما أن رأى مراقبون أنه إذا قرر قادة الصين أنهم بحاجة إلى استعادة تايوان وكانوا مقتنعين بأن الولايات المتحدة سترد، فسيقومون بتوجيه ضربة استباقية للقوات الأمريكية في المنطقة كخيار أخير؛ ويمكن للصواريخ الصينية أن تقضى على القواعد الأمريكية الرئيسية في اليابان، بل وقد تواجه حاملات الطائرات الأمريكية صواريخ «قاتل الحاملات» الصينية. وقد حذّر وزير الدفاع الصيني «وي فنغي» نظيره الأمريكي «لويد أوستن»، في وقت سابق، من أن بكين «لن تتردد في بدء حرب» إذا أعلنت تايوان استقلالها.

الحليف السعودي لم يعد «منبوذًا»

«إذا افترضنا أن الولايات المتحدة ستتعامل فقط مع الدول التي تشاركها 100٪ من قيمها ومبادئها. فلن يكون لديها دول تتعامل معها باستثناء دول الناتو». هكذا قال ولي العهد السعودي «محمد بن سلمان» خلال لقاءه مع «بايدن»، بشأن قضية مقتل الصحفي السعودي «جمال خاشقجي». فقد عبَّر هذا التصريح عن تغير النظرة السعودية إلى الحليف الأمريكي، ويشير إلى رفض الرياض تدخل الولايات لمتحدة لفرض قيم بالقوة. وهو بمثابة عتابًا لإدارة «بايدن» بشأن موقفها الأول الذي اتبعته تجاه المملكة.

منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية، عام 2019، وعد «بايدن» بجعل السعودية دولة «منبوذة»؛ ردًا على مقتل «خاشقجي». لكن مع مرور السنوات واستمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وتأثر الاقتصاد الأمريكي بتلك الحرب ولا سيما فيما يتعلق بارتفاع أسعار النفط مع خفض الإنتاج، أجبرت تلك الظروف «بايدن» على إعادة النظر فيما إذا ما زال يستطيع أن يجعل السعودية دولة «منبوذة» أم لا؟

لقد غفل «بايدن» منذ توليه عن مبدأ رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «ونستون تشرشل» حينما قال: «في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة». لكن حينما جاءت الحرب الروسية استرجعت إدارة «بايدن» هذا المبدأ. فالسعودية حليف مهم لا يمكن تجاوزه وإقامة تحالفات في المنطقة من دون إشراكه. لقد خسرت واشنطن الحليف السعودي ولن تستطيع إعادة العلاقات كما كانت من قبل، لا سيما بعد ما بدأت السعودية منذ تولي «بايدن» إقامة تقاربات مع دول مختلفة وتنويع حلفاءها حتى العدو الإيراني، أخطر أعداء الرياض، أصبحت السعودية تقبل الجلوس معه بوساطة عراقية. جعل السعودية دولة «منبوذة» مبدأ أثبت فشله من ناحية وأثبت مدى احتياج واشنطن للرياض من ناحية أخرى.

وفي الوقت الذي حاولت فيه الإدارة الأمريكية الحالية الانسحاب تدريجيًا من الشرق الأوسط أثبت الغزو الروسي أن هذا الانسحاب سيضر واشنطن أكثر مما ينفعها بعدما أصبح حلفاءها السابقون قادرون على إيجاد حلفاء بديلين خاصة الحليف الروسي، الذي أصبحوا يرون فيه حليفًا يمكن الوثوق به.

اتفاق مُحَال

على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، من خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)، إلا أنها مع قدوم الإدارة الحالية أعربت عن نيتها في العودة إلى الاتفاق، لكن قد فات الوقت فلقد أدى الانسحاب الأمريكي من الاتفاق إلى تخلي إيران عن التزامها به ومن ثم بدأت تستفيد إيران من هذا الانسحاب في الاستمرار في تطوير برنامجها النووي والتحرر تدريجيًا عن قيود الوكالة الدولية للطاقة الذرية وممارسة أنشطة نووية سرية بعيدة عن أنظار الوكالة. لقد استفادت إيران من هذا الانسحاب وخسرت واشنطن حتى أنها باتت عاجزة عن إجبار الجانب الإيراني على العودة إلى دائرة المفاوضات التي كانت غير مباشرة بالأساس.

لم تؤثر العقوبات الأمريكية التي فرضتها واشنطن على طهران طوال أكثر من ثلاثين عامًا، في ثني إيران عن برنامجها النووي وتعديل سلوكها، حتى بعد الاغتيال الإسرائيلي للعقل المُدبر للبرنامج النووي «محسن فخري زاده» استمرت إيران في زيادة تخصيب اليورانيوم واستكمال مشروعها النووي حتى أصبحت على أعتاب القنبلة النووية. تدرك إيران أن ما ستجنيه في حالة امتلاكها السلاح النووي يفوق بكثير ما يُمكن أن تقدمه لها الدول الأوروبية والولايات المتحدة مجتمعة، لذا قبلت طهران المخاطرة وظلت تماطل حتى وصلت مفاوضات فيينا إلى طريق مسدود.

ضوء أخضر لأنقرة

في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أعطى البيت الأبيض الضوء الأخضر لتركيا لغزو شمال سوريا، وتخلى حينها عن مصير الميليشيات الكردية، التي قاتلت منذ عام 2015 كوكيلة واشنطن الرئيسية في حرب الناتو في سوريا. لم يكن بمقدرة أنقرة وقتئذ على الغزو من دون الضوء الأخضر الأمريكي لكنها اليوم ومع تجديد الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» تهديداته بتنفيذ عملية عسكرية في شمالي سوريا، أصبحت تركيا لا تهتم كثيرًا بالموقف الأمريكي من عمليتها المحتملة لأن الصدام بينهما غير وارد لعدم وجود قوات أمريكية هناك، وإنما تهتم تركيا بالموقف الروسي، الذي لديه قوات هناك.

«أنا صهيوني»

تعتبر القضية الفلسطينية أحد أهم قضايا المنطقة العربية، التي لا يمكن تجاهلها، وعلى الرغم من معارضة «بايدن» حينما كان مرشحًا للرئاسة قرار الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فضلًا عن معارضة «بايدن» كذلك لقرار إلغاء حل الدولتين، ووقف تمويل وكالة «أونروا»، بل وصل الأمر إلى عدم رغبته وتردده في الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلى السابق «بنيامين نتنياهو» بعد توليه الرئاسة.

لكن وبعد مكوثه لأكثر من عام ونصف في البيت الأبيض، لم ينفذ «بايدن» أي وعد من وعوده الأساسية بالنسبة لفلسطين، وأبقى على السفارة كما هي في القدس، بل ولم يعارض حتى الاستيطان، أو سياسة القتل الإسرائيلية الممنهجة ضد الفلسطينيين، ولم يتخذ أي إجراء ليعيد إسرائيل لمائدة التفاوض ناهيك عن تطبيق حل الدولتين. قد يفسر قوله: «أنا صهيوني ولا يتعين على المرء أن يكون يهوديًا لكي يكون صهيونيًا»، الذي ذكره خلال خطابه في مطار «اللد» أثناء زيارته الأخيرة إلى إسرائيل، أسباب هذا الانحياز تجاه الاحتلال ورفض حلحلة القضية الفلسطينية لتبقى تراوح مكانها.

خلاصة القول، إن الحرب الروسية في أوكرانيا كانت اختبارًا لمدى قوة الولايات المتحدة ومدى التزامها بالدفاع عن حلفائها، ولا سيما بعد اهتزاز ثقتهم في الالتزامات الأمنية الأمريكية في أعقاب عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. لكن يتضح أن الولايات المتحدة تلجأ في التعامل مع أعدائها إلى سلاح رئيسي وهو «سلاح العقوبات» على الرغم من أنه لم يجدي نفعًا حتى الآن ولم يحقق الأهداف الأمريكية المرجوة وإنما يزيد من إصرار العدو في استكمال وتعزيز سياساته؛ فالعقوبات الأمريكية على طهران زادتها إصرارًا في استكمال برنامجها النووي، حتى تطور بشكل مقلق، وكذلك العقوبات على روسيا لم تؤد سوى إلى تصعيد الحرب في أوكرانيا.