ولاء عمران تكتب لـ(اليوم الثامن):
الجنوب العربي.. بين تحرير الأرض وصراع النفوذ الإقليمي
منذ منتصف القرن العشرين، لم يكن اليمن الذي نعرفه اليوم دولة واحدة، بل كيانين مستقلين: الجنوب العربي الذي نال استقلاله عن بريطانيا عام 1967، واليمن الشمالي الذي خرج من النفوذ العثماني عام 1918. كان لكلٍ من الكيانين تجربة سياسية واجتماعية مختلفة؛ إذ ساد في الجنوب نظام اشتراكي حديث قائم على المؤسسات، بينما اعتمد الشمال على سلطات تقليدية مركزية. هذا الاختلاف لم يكن مجرد تاريخ، بل ترك آثارًا اجتماعية وسياسية عميقة شكّلت وعي الشعب الجنوبي واستقلاليته الفكرية والسياسية.
وفي عام 1990، أُعلنت “الوحدة اليمنية” وسط انهيار النظام الدولي القديم بعد الحرب الباردة، وكان من المفترض أن توحّد هذه التجربة البلدين على أسس عادلة، لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ إذ سرعان ما ظهرت فجوات سياسية واجتماعية عميقة بين الشمال والجنوب.
وبعد أربع سنوات فقط، اندلعت حرب 1994، التي خلّفت سبعة آلاف قتيل مدني، واغتيالات مستهدفة للقيادات الجنوبية، حيث استُقدِم آلاف المقاتلين، غالبًا من أفغانستان، الذين شكّلوا لاحقًا نواة تنظيم القاعدة. هذه الحرب لم تكن مجرد صراع عسكري، بل محاولة لطمس الهوية الجنوبية والسيطرة على الموارد والقرار السياسي.
ومنذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، دخل التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات بهدف كبح تمدد الحوثيين واستعادة مؤسسات الدولة، وفي مقدمة صفوف المواجهة تقدّم الجنوبيون بأجسادهم وسلاحهم. لم يكن الجنوب مجرد ساحة دعم، بل قلب المعركة ومحرّكها البشري والعسكري، وارتقى آلاف المقاتلين من أبناء عدن ولحج والضالع وأبين وحضرموت شهداء وهم يدافعون عن أرضهم وهويتهم في مواجهة الحوثي والجماعات الإرهابية على حد سواء.
وفي خضم تلك السنوات، تركت الإمارات بصمة لا تُمحى في الجنوب دعمًا وتدريبًا وإنسانيًا، وهو اعتراف شهدته شوارع عدن والمكلا في مليونيات رفعت لافتة “شكرًا إمارات”، في لحظة امتنان شعبي لا يمكن القفز عليها أو إنكارها. ومع ذلك، ظل الجنوب متمسكًا بقراره الوطني المستقل، مدركًا جيدًا أن معركة التحرير لم تكن هدية من أحد، بل ثمرة تضحيات أبنائه.
حضرموت العاصمة الاقتصادية للجنوب
تظل حضرموت محور الثقل الاقتصادي والجيوسياسي في الجنوب العربي، ليس فقط لاتساع مساحتها وامتدادها الجغرافي، بل لأنها تضم أهم الحقول والمكامن النفطية في الجنوب، وتُعد نقطة ارتكاز رئيسية في منظومة الطاقة الوطنية. كما تمتلك المحافظة ساحلًا طويلًا على بحر العرب يمنحها منفذًا بحريًا استراتيجيًا على خطوط الملاحة الدولية، ويقارب بوابة البحر الأحمر وباب المندب، ما يجعلها حلقة وصل تجارية وأمنية لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات تخص مستقبل الجنوب أو توازنات الإقليم.
هذا الثقل الاقتصادي، مقرونًا بموقع استراتيجي حساس، جعل حضرموت ساحة تنافس وصراع نفوذ إقليمي ودولي، ومحط أنظار الرياض وأبوظبي على حد سواء، فضلًا عن القوى المحلية التي تسعى لترسيخ حضورها داخل المحافظة. ومن هنا تنبع حساسية المشهد الحضرمي؛ فأي تغيّر في وضعها السياسي أو الأمني ينعكس مباشرة على معادلات الجنوب برمته.
وقد تمكنت القوات الجنوبية من استعادة السيطرة على المحافظة بعد تهديدات طالت مسارات النفط والملاحة، وقطع طرق تهريب وإمداد الجماعات الإرهابية، بما فيها القاعدة. وخرجت مليونيات شعبية في مختلف المحافظات الجنوبية لدعم المجلس الانتقالي وانتشاره في وادي وصحراء حضرموت لتطهيرها من القاعدة وداعش والجماعات الإرهابية، وهو ما أكد أن مشروع الدولة الجنوبية إرادة شعبية حقيقية، وليس مجرد خيار نخبة سياسية.
وبرزت أزمة أخرى مع محاولة عمرو بن حبريش، المدعوم – حسب ما يتردد – من بعض الأطراف الإقليمية، فرض أجندته الخاصة على حضرموت بما يهدد المشروع الوطني الجنوبي. وحاول المجلس الانتقالي ضمّه ضمن حوار وطني شامل باعتباره جنوبيًا من أبناء المحافظة، لكنه رفض أي تفاهم، ودعا أتباعه إلى اعتبار حضرموت دولة مستقلة عن الجنوب، وهو ما كشف نياته، وكان لا بد من التصدي له، والتأكيد على أن المشروع الوطني الجنوبي إرادة شعبية متماسكة ضد التجزئة والتفتيت.
مكافحة الإرهاب.. الجنوب ينجز والسعودية أمام خيار حقيقي
مع سيطرة القوات الجنوبية على حضرموت وطرد العناصر الإرهابية، تبرز تساؤلات حقيقية حول الموقف السعودي: إذا كانت المملكة تدعم التحالف العربي لمواجهة الإرهاب، فلماذا يُنظر إلى نجاح المجلس الانتقالي في القضاء على تنظيم القاعدة والجماعات الإخوانية كتهديد؟
القوات الجنوبية لم تنفذ عملياتها لمصلحة طرف إقليمي محدد، بل لتحقيق الأمن والاستقرار في الجنوب وحماية الملاحة والمصالح الدولية. وجاءت هذه النجاحات بعد عمليات دقيقة وممنهجة ضد معاقل الإرهاب في أبين وحضرموت، وعززت من الأمن المحلي والإقليمي، وهو الهدف الذي تدّعي السعودية السعي لتحقيقه منذ بداية الحرب.
لكن هناك تناقضًا واضحًا في الموقف؛ فمن جهة يُعد القضاء على الإرهاب ضرورة مشتركة، ومن جهة أخرى يُسجَّل تصعيد ضد القوات الجنوبية التي نفذت هذه المهمة بكفاءة، بما في ذلك غارات جوية على مواقعها. وهذا يعكس أن المشكلة ليست في القضاء على الإرهاب، بل فيمن يتحكم بالقرار الأمني والسياسي بعد هذه العمليات، وفي كيفية توزيع النفوذ في الجنوب بين القوى الإقليمية والمحلية.
وباختصار، فإن نجاح المجلس الانتقالي في مكافحة الإرهاب ليس تهديدًا للمملكة، بل فرصة لدعم استقرار المنطقة، ويؤكد أن الجنوب قادر على حماية حدوده ومصالحه بنفسه، دون وصاية أو تدخل خارجي.
بين عجز الشمال وإنجاز الجنوب
وعلى امتداد عشر سنوات من تدخل التحالف العربي، لم تُسجَّل أي انتصارات حقيقية في الشمال أو في صنعاء؛ فالعاصمة لا تزال في قبضة الحوثيين، والجبهات المشتعلة من مأرب إلى نهم لم تغيّر شيئًا في ميزان القوى. هذه الحقيقة الصادمة تضع التحالف أمام مرآة الأداء العسكري والسياسي: لماذا ظل الحوثي، العدو المباشر للمملكة، آمنًا في معاقله، بينما تتوجه الضغوط والضربات نحو الجنوب الذي أثبت قدرته على فرض الأمن والاستقرار؟
في المقابل، حرر الجنوبيون أرضهم بأنفسهم؛ قدّموا الشهداء، واستعادوا مدنهم من الحوثيين منذ وقت مبكر، وواصلوا معاركهم ضد أخطر الجماعات الإرهابية، من القاعدة إلى خلايا الإخوان، محققين ما لم يحققه التحالف ذاته في الشمال. لذلك تبدو المفارقة صارخة: إن كان القضاء على الحوثي هدفًا استراتيجيًا للتحالف، فما الذي يضير المملكة في أن يستقر الجنوب ويشتد عوده؟ ولماذا تتجه بعض القذائف جنوبًا بدلًا من أن تُصوَّب نحو العدو الحقيقي الذي استنزف الأمن على حدود المملكة لعقد كامل؟
وتزداد هذه الأسئلة إلحاحًا بعد إعلان الإمارات انسحابها من التحالف؛ فوجودها لم يكن عسكريًا فقط، بل عنصر توازن في المعادلة الإقليمية. ومع خروجها، يضع الجنوبيون والمراقبون أصابعهم على سؤال جوهري: هل ستبقى السعودية وحدها في هذا التحالف؟ وإن بقيت، فإلى أين سيتجه مسار المعركة؟ هل تعيد المملكة حساباتها بوضع الجنوب حليفًا وشريكًا في مواجهة الحوثي، أم تستمر في معادلة أنهكتها ولم تحقق سوى المزيد من الجمود؟
إن الجنوب اليوم لم يعد جبهة عبور أو مساحة نفوذ، بل فاعلًا حقيقيًا في المعادلة اليمنية والإقليمية والدولية، أثبت أن الأمن يتحقق حين تتوفر الإرادة، وأن العواصف تهدأ حين يكون القرار جنوبيًا نابعًا من الأرض نفسها.
اليوم، الجنوب ليس طرفًا في نزاع مسلح، بل قوة سياسية واقتصادية واستراتيجية. وتبقى حضرموت محورًا حيويًا، ويعكس نجاح الجنوب في مواجهة الإرهاب استقلال القرار السياسي والأمني. ولم تثنِ الغارات الجوية على القوات الجنوبية عزيمتهم عن الاستمرار في حماية المحافظة، مؤكدين أن الجنوب خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وأن أي محاولة للتدخل في إرادته ستكون مواجهة مع الشعب بأكمله.
الجنوب خط أحمر
واليوم يرسل الجنوب رسالة واضحة للعالم: لا يخاصم أحدًا، لكنه لن يسمح لأحد أن يخاصم إرادته. من أراد شراكة فليعترف بها، ومن أراد نفوذًا فليفهم أن زمن الوصاية انتهى، ومن أراد استقرار المنطقة فليدعم من أثبت أنه عامل استقرار لا فوضى. إن إرادة الجنوب اليوم متجذرة في التاريخ والدم والتضحيات، وهو أقرب من أي وقت مضى لاستعادة دولته واستكمال مشروعه الوطني.
الجنوب خط أحمر؛ لأنه مكتوب بدم من رحلوا، وممهور بإرادة من بقوا، ومعلّق على وعد دولة عائدة من غبار التاريخ، لا لتعيد الماضي، بل لتصنع المستقبل.


