أسامة الأطلسي يكتب لـ(اليوم الثامن):
أموال حــ ــمــ ـاس... من شعارات المقاومة إلى واقع الانفصال عن الناس
في قطاع غزة، حيث تتحول السماء إلى دخانٍ رماديٍّ كثيف، وتعلو أصوات الأمهات على أنقاض البيوت، يظلّ السؤال ذاته يتردّد في الأزقة والمخيمات منذ سنوات: أين ذهبت أموال حماس؟ وأين اختفت المليارات التي جُمعت باسم “المقاومة”، و”غزة الصامدة”، و”دعم الصمود في وجه الاحتلال”؟
سؤال بسيط في صياغته، لكنه ثقيل في دلالاته، لأنه يفتح الباب على أزمة ثقةٍ غير مسبوقة بين الناس في غزة والحركة التي حكمتهم منذ أكثر من عقدٍ ونصف باسم “المقاومة”. تلك المقاومة التي تحوّلت مع مرور الوقت، في نظر كثيرين، من شعارٍ وطنيٍّ جامع إلى أداةٍ سياسيةٍ مغلقة تُدار لحساب فئةٍ محدودةٍ من القيادات.
منذ سنوات، تبنّت حركة حماس خطاباً يعتمد على البطولة والمظلومية، فهي “المقاومة التي لا تُقهر”، وهي “الدرع الواقي للأمة الإسلامية”، وهي “صوت غزة الحرة”. لكن هذا الخطاب بدأ يفقد بريقه مع الوقت، إذ بات سكان القطاع يرون بأعينهم الهوّة بين الكلمات والواقع. ففي حين يتحدث قادة حماس عن “صمود غزة”، يعيش أكثر من 80% من سكان القطاع تحت خط الفقر، ويعتمد معظمهم على المساعدات الإنسانية للبقاء. الكهرباء بالكاد تصل لبضع ساعات يومياً، المياه ملوّثة، البطالة تجاوزت 50% بين الشباب، والبنية التحتية متهالكة. ومع ذلك، تستمر الحركة في الحديث عن “الانتصارات الإلهية”، وكأنّ الواقع المعيشي لا علاقة له بالمقاومة.
في خضمّ هذا المشهد، أعاد الغزيون استحضار تصريحٍ قديمٍ للقيادي في الحركة خالد الحية حين قال: “مال حماس لحماس”. عبارةٌ عابرةٌ في سياقها الأصلي، لكنها أصبحت اليوم عنواناً لواقعٍ مؤلمٍ يشعر به الناس يومياً، إذ يرون أن الحركة التي كانت تقول إنها تمثلهم، باتت تعيش بمعزلٍ عنهم.
منذ عام 2007، تاريخ سيطرة حماس على قطاع غزة، تدفّقت إلى القطاع مليارات الدولارات من المساعدات والمنح والتبرعات، تحت عناوين إنسانية وإغاثية وتنموية. ساهمت دولٌ عربية وإسلامية عديدة في دعم القطاع، من قطر وتركيا إلى إيران، مروراً بالمؤسسات الخيرية الإسلامية المنتشرة في أوروبا والخليج. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: ما الأثر الحقيقي لهذه الأموال على حياة الناس؟
بحسب تقارير اقتصادية دولية، بلغ حجم التمويل الذي وصل إلى غزة ما بين 2008 و2023 أكثر من 15 مليار دولار، من بينها أكثر من 1.5 مليار دولار سنوياً كمساعدات مباشرة عبر مؤسساتٍ أممية أو جمعياتٍ محسوبة على حماس. ومع ذلك، لا توجد مشاريع بنية تحتية كبرى تُذكر. الكهرباء لا تزال مأزومة، محطات التحلية تعمل بطاقةٍ محدودة، المدارس مزدحمة، والمستشفيات تعاني نقصاً حاداً في الأدوية والمعدات.
يرى سكان غزة أن تلك الأموال لم تُوجَّه لتحسين معيشتهم، بل تحولت إلى رأسمال سياسي واقتصادي للحركة. إذ ذهبت نسبة كبيرة منها إلى تعزيز البنية الأمنية والعسكرية، وبناء شبكة ولاءات حزبية داخل المجتمع، وتثبيت حكمها السياسي والإداري على حساب المؤسسات المدنية. وفي الوقت الذي تتحدث فيه حماس عن “المقاومة الاقتصادية”، يعيش قادتها في الخارج حياةً مترفة، يتنقلون بين فنادق الدوحة وإسطنبول وبيروت، بينما الغزيون ينامون بين الأنقاض أو في خيامٍ مهترئة. هذا التناقض يخلق شعوراً عاماً بالخذلان، وغضباً مكتوماً يتراكم في صدور الناس الذين يشعرون بأنهم خُذلوا من قادتهم، قبل أن يُخذلوا من العالم.
حين تأسست حركة حماس في أواخر الثمانينيات، رفعت شعار “الإسلام هو الحل”، وقدّمت نفسها كحركة مقاومةٍ متجذّرة في الوجدان الشعبي، نزيهةٍ في المال والسياسة. لكنّ تجربة الحكم الطويلة حوّلتها من حركةٍ عقائديةٍ إلى سلطةٍ أمرٍ واقعٍ تتنازع النفوذ والامتيازات، وتتحكم في الموارد بمعزلٍ عن الشعب. لقد نشأت داخل الحركة طبقة سياسية–اقتصادية جديدة؛ قادة ووسطاء وتجار ارتبطت مصالحهم باستمرار الوضع القائم، لا بتغييره. تحولت فكرة المقاومة إلى مشروع استثماري يُدر أرباحاً مالية وسياسية، وتحوّل “العدو الخارجي” إلى مبررٍ دائمٍ لتأجيل المحاسبة والشفافية.
فبينما يعيش مقاتلو القسام في ظروفٍ قاسية، يتداول الفلسطينيون أخباراً عن قادة يملكون استثماراتٍ عقاريةٍ في الخارج، أو حساباتٍ مصرفيةٍ سرية، أو حصصاً في شركاتٍ تجاريةٍ تابعةٍ للحركة. هذه الصورة تُضعف الثقة، وتحوّل المقاومة من “قضية تحرير” إلى “منظومة مصالح”، وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه حركة مقاومةٍ تحمل مشروعاً وطنياً.
يرى محللون فلسطينيون أن حماس تمارس اليوم سياسة التمويل المغلق، أي إدارة الموارد المالية ضمن دوائر ضيقةٍ تخضع للمكتب السياسي للحركة، بعيداً عن أي مساءلةٍ شعبيةٍ أو رقابةٍ مؤسسية. ولا توجد ميزانية معلنة، ولا تقارير محاسبية رسمية، ولا مؤشرات تُظهر كيف تُوزع المساعدات. حتى الأموال التي تصل عبر الأمم المتحدة أو قطر تمرّ من خلال منظومةٍ ماليةٍ تشرف عليها الحركة بشكل غير مباشر، ما يجعلها الطرف الفعلي المتحكم في توزيع الموارد.
يُضاف إلى ذلك أنّ حماس تمتلك شبكة استثماراتٍ تجارية خارجية، وفقاً لتقارير استخباراتية غربية، تُقدَّر بمئات الملايين من الدولارات، موزعة بين تركيا والسودان وماليزيا ولبنان. وهذه الشبكة — رغم أنها تُبرَّر بأنها “لخدمة القضية” — باتت عملياً بمثابة صندوقٍ ماليٍّ خاصٍّ للحركة، يُستخدم في تمويل نشاطها السياسي والعسكري، لا في تنمية المجتمع الغزّي.
وفي الوقت الذي تُشدّد فيه الحركة قبضتها على السوق المحلية — من الوقود والغاز إلى الضرائب والتصاريح التجارية — تُظهر نفسها للعالم كضحيةٍ للحصار. هذا التناقض بين صورة “الضحية” وواقع “المتحكم” خلق ما يمكن تسميته باقتصاد المقاومة المغلق، الذي يقوم على استثمار المعاناة وتحويلها إلى موردٍ سياسيٍّ وماليٍّ مستدام.
أكبر ما يعمّق أزمة الثقة اليوم هو الفارق بين حياة الداخل والخارج. في غزة، يعيش الناس على الكفاف، بينما في الخارج يظهر قادة حماس في مؤتمراتٍ فخمة وخلفهم شاشات ضخمة تحمل شعارات “القدس أقرب”. تُلتقط صورهم في فنادق من خمس نجوم أو على شواطئ البحر المتوسط، أو في منتديات سياسية يُشيدون فيها بـ“صمود غزة”. لكنّ الغزيين الذين يسمعون تلك الكلمات من داخل المخيمات يعرفون أن “الصمود” لم يعد يعني إلاّ مزيداً من المعاناة.
يقول أحد الشباب الغزيين: “نحن لا نكره المقاومة، نحن نكره استغلالها. نريد من يقاتل من أجلنا، لا من يعيش باسمنا.” هذه الجملة تلخص التحوّل العميق في وعي الناس داخل القطاع. فالمجتمع الذي قدّم آلاف الشهداء باسم المقاومة، بات اليوم أكثر شكّاً في جدوى من يقودها. إنه انفصالٌ بين الشرعية الثورية والشرعية الأخلاقية، بين من يملك السلاح ومن يفقد الخبز.
تاريخ الفصائل الفلسطينية مليء بالأخطاء والانقسامات، من فتح إلى الجبهة الشعبية، لكنّ أحداً منها لم يتعامل مع المال العام بهذه الطريقة. لم نسمع يوماً من يقول: “مال فتح لفتح” أو “مال المنظمة للمنظمة”. كانت الفصائل، على علّاتها، تُدرك أن المال الفلسطيني مالٌ عام، وأنه رمزٌ للهوية الوطنية. أما اليوم، فقد تحوّلت مقولة “مال حماس لحماس” إلى شعارٍ ضمنيٍّ يُعبّر عن استقلال الحركة عن الشعب، وكأنها دولة داخل الدولة، أو شركة سياسية تدير مواردها الخاصة بعيداً عن أي التزامٍ وطنيٍّ شامل.
غياب الشفافية المالية هو أحد أبرز أوجه الأزمة داخل حماس. فلا توجد آلية واضحة لمعرفة حجم الأموال الواردة أو المصروفة، ولا توجد مؤسسات رقابية مستقلة، ولا تقارير مالية منشورة. كل شيء يُدار في الظل، تحت عنوان “السرية الأمنية”. لكنّ السرية التي كانت مبرّرة في زمن المقاومة المسلحة أصبحت اليوم أداة لحجب المعلومات ومنع المحاسبة. وكلما طالب أحد بالشفافية، اتُّهم بالعمالة أو “الإساءة لرموز المقاومة”. بهذا الشكل، تُختزل القضية في الولاء لا في المصلحة العامة، وفي الصمت لا في النقد البنّاء.
الحديث عن الفساد المالي داخل حماس ليس ترفاً إعلامياً، بل ضرورة وطنية، لأن الفساد يُفرغ المقاومة من معناها. فكيف يمكن لحركة تقول إنها تقاتل من أجل العدالة والحرية أن تمارس التمييز الطبقي والسياسي داخل مجتمعها؟ وكيف يمكن أن تطلب من شعبٍ محاصرٍ أن يضحّي أكثر، بينما يرى بأمّ عينه أن أموال التبرعات تُدار كغنائم حزبية؟ إن مقاومة الاحتلال لا تكتسب مشروعيتها من الشعارات، بل من الالتزام الأخلاقي تجاه الشعب. وأي انحرافٍ في هذا الالتزام يفتح الباب أمام انهيار المعنى نفسه. فالشعوب لا تثق بالمقاومة التي تُغني قادتها وتُفقِر جمهورها، ولا تؤمن بحركاتٍ تتحدث عن “تحرير الأرض” بينما تعجز عن إدارة حيٍّ فقيرٍ بعدالة.
إذا أرادت حماس أن تستعيد ثقة الناس، فعليها أن تبدأ بمصارحةٍ شجاعة لا بخطابٍ تعبويٍّ جديد. أن تكشف للرأي العام حجم الأموال التي دخلت القطاع، وأين صُرفت، ومن المستفيد منها، وكيف تُدار الاستثمارات الخارجية باسم الحركة. كما يجب أن تسمح بوجود مؤسساتٍ مدنيةٍ مستقلة تُراجع الحسابات، وتُنشر نتائجها على الملأ. إن الشفافية ليست ضعفاً كما يصوّرها بعض المتشددين، بل هي ركنٌ أساسيٌّ من أركان المقاومة المسؤولة. فمن يحارب الاحتلال عليه أن يكون أصدق مع شعبه من أيّ خصمٍ خارجي، وإلا تحوّلت المقاومة إلى مشروع سلطة، لا مشروع تحرّر.
بعد أكثر من 17 عاماً من الحكم، لم تعد حماس تُقاس بخطاباتها أو بصورها في المسيرات، بل بقدرتها على تغيير واقع الناس. وغزة اليوم لا تبحث عن “نصرٍ إعلاميٍّ” جديد، بل عن كرامة معيشية وعدالة اجتماعية. الناس لا يريدون بياناتٍ تُذاع من إسطنبول أو الدوحة، بل كهرباءً وماءً وتعليماً وفرص عمل. وحين يقول الغزيون إنهم “يريدون قيادة تشعر بهم لا تزايد عليهم”، فهم لا يطلبون المستحيل. إنهم يطلبون فقط أن يُعاد تعريف المقاومة لتكون وسيلة لتحرير الإنسان قبل تحرير الأرض.
إن مقولة “مال حماس لحماس” ليست مجرد شعارٍ سيئ الحظ، بل هي مرآة لأزمة سياسية وأخلاقية داخل بنية الحركة نفسها. فالمال العام ليس ملكاً لأي تنظيمٍ أو قائد، بل هو أمانة في أعناق من يدّعون تمثيل الناس. والمقاومة التي لا تبدأ من النزاهة تنتهي إلى الاستبداد، مهما رفعت من شعارات التحرير. إن غزة اليوم لا تحتاج شعاراتٍ جديدة، بل تحتاج إلى صدقٍ جديد، إلى قيادةٍ تُثبت بالفعل لا بالقول أن مالها للشعب لا للفصيل، وأن مقاومة الفساد لا تقل أهمية عن مقاومة الاحتلال. فمن ضحّى بدمه لا يستحق أن يُهان بفقره، ومن صمد تحت النار لا يجوز أن يُترك في العراء بينما تُبنى القصور باسمه. غزة — تلك المدينة التي تتنفس الألم وتُخفي الأمل — ما زالت تنتظر أن يعود المال إلى أهله، لا إلى خزائن الشعارات.


