ماريا هاشم يكتب لـ(اليوم الثامن):
إلى أين يتجه اليمن بحلول العام 2030م.. نظرة واقعية أم تشاؤمية؟
بعد أكثر من عقد من الحرب، يغدو اليمن كما لو أنه سقط في مرحلة غامضة لا هي حرب صريحة ولا سلام واضح، بل حالة طويلة من الانهاك والتآكل. المجتمع منهك، الدولة متفككة، والعالم متعب من الأزمة التي لم تعد تحظى بالاهتمام الكافي. في ظل هذا الجمود، تتجه البلاد نحو عقد جديد من الانهيار الهادئ، حيث يغوص اليمنيون أعمق في إرث الحرب، بكل ما يحمله من تشظٍ اجتماعي وتفكك سياسي وانهيار اقتصادي وصحي شامل، وفق ما أوردته وسائل اعلام يمنية محلية.
الحرب التي بدأت كصراع على السلطة تحولت إلى نمط حياة. الناس يعيشون داخل منظومة من الخوف والولاءات الضيقة، تتبدل فيها القيم ويُعاد تعريف الخير والشر على أساس الانتماء لا المبدأ. الهوية الوطنية تآكلت، وحل محلها انقسام جهوي ومذهبي ومناطقي يحدد الانتماء والمصير. في الشمال تكرّس جماعة الحوثي نموذجها القائم على "الهوية الإيمانية"، وفي الجنوب يتشكل وعي جديد بهوية جنوبية تبحث عن الاعتراف، أما في الوسط فثمة خليط هش من الولاءات والانقسامات المؤقتة.
النسيج الاجتماعي الذي كان يقوم على التكافل والروابط القبلية والعائلية تفكك هو الآخر، وتحوّل الفقر إلى أداة إذلالٍ وإخضاع. المساعدات باتت تُوزّع بمعايير الولاء لا الحاجة، والمنظمات الإنسانية أصبحت جزءًا من شبكة السيطرة. الفقر اليوم ليس حالة اقتصادية فحسب، بل هو نظام حكمٍ خفيّ يُعيد إنتاج الضعف والطاعة.
على الصعيد السياسي، فقدت الشرعية معناها الحقيقي. السلطة في عدن تبدو رمزية أكثر من كونها تنفيذية، والمجالس العسكرية والسياسية التي ظهرت بعد 2022 تعاني من الانقسام والتنافر. كل طرف يتصرف كأنه يملك اليمن وحده، بينما لا أحد يملك القدرة على إدارته فعليًا. الحوثيون في صنعاء بنوا نظامًا مغلقًا يحكم باسم الدين والسلالة، فيما يكتفي الآخرون في الجنوب بمحاولات إدارة الواقع بحدّه الأدنى.
المجتمع الدولي بدوره تراجع عن مشهد اليمن. المانحون أنهكهم طول الحرب وعبث الفساد، والتحالف العربي غيّر أولوياته من التدخل إلى الاحتواء. السعودية باتت تنظر إلى اليمن كحدود يجب تأمينها، لا كدولة يجب إنقاذها، والإمارات تركّز على استقرار الممرات البحرية وحماية خطوط التجارة. اليمن أصبح شأنًا داخليًا معزولًا دوليًا، تتلاشى فيه فرص التسوية السياسية مع مرور الوقت.
الاقتصاد يعيش مرحلة "اللاعودة". الريال اليمني فقد قيمته، والمصارف تعمل وفق منطق المناطق لا الدولة. في الجنوب يتعامل الناس بالريال السعودي أو الدولار، وفي الشمال يُعاد استخدام العملات القديمة أو يجري التبادل بالمقايضة. ما تبقى من النشاط الاقتصادي تحكمه شبكات التهريب والجبايات والصفقات غير الرسمية، حيث صارت الحرب مصدر رزقٍ لمن يعيشون منها. الاقتصاد الرسمي تراجع حتى أصبح الظلّ أكبر من الأصل، والفساد هو النظام المالي الوحيد القادر على الاستمرار.
تُشير التقديرات إلى أن المساعدات الخارجية ستتقلّص تدريجيًا حتى تتوقف تمامًا بحلول عام 2029، وهو الموعد الذي يُرجّح أن يشهد انهيارًا شاملاً في قدرة الدولة على البقاء. توقف التمويل يعني توقف الرواتب، وتعطل الخدمات، وتراجع التعليم والصحة إلى ما دون الصفر. ومع غياب الحلول الحقيقية، سيبدأ اليمنيون بالهجرة الجماعية نحو الخارج، بحثًا عن أمنٍ مفقود وفرصٍ لا وجود لها في الداخل.
القطاع الصحي يواجه موتًا بطيئًا. أكثر من نصف المستشفيات مغلقة أو تعمل بأقل من طاقتها، والأوبئة تعود في موجات متتالية. لا يوجد نظام صحي قادر على الاستجابة، ولا تمويل كافٍ لإعادة الإعمار. الأطفال الذين وُلدوا خلال الحرب يكبرون وسط المجاعة والمرض، ويكوّنون جيلًا هشًا نفسيًا وجسديًا. الانهيار الصحي لا يعني فقط غياب الدواء، بل غياب الأمل في البقاء. ومع غياب الدعم النفسي، تتحول الصدمة إلى نمط عيشٍ دائم، يصنع مجتمعاتٍ مأزومة تنقل الحرب من جيلٍ إلى آخر.
إذا استمرت الاتجاهات الراهنة، فإن الأعوام ما بين 2029 و2038 ستشهد اكتمال مشهد الانهيار. ستتوقف الدولة عن أداء وظائفها بالكامل، وستنشأ كيانات محلية صغيرة تتصارع على الموارد والموانئ والمعابر. عدن والمكلا قد تتحولان إلى مناطق شبه مستقلة، فيما يبقى الشمال غارقًا في معادلة الفقر والسلطة المغلقة. الهجرة ستبلغ ذروتها، وقد يتجاوز عدد النازحين والمهاجرين عشرة ملايين إنسان.
لن تكون النهاية درامية، بل بطيئة وصامتة. دولة تتلاشى كل يوم دون أن يلحظها أحد، ومجتمع يعتاد الخراب كجزء من الحياة. حرب اليمن لم تعد حدثًا؛ صارت بنية كاملة تحكم السياسة والاقتصاد والعلاقات الإنسانية. ومع كل عامٍ يمر، يغوص اليمنيون أكثر في إرثها، حتى يصبح الخروج منه أصعب من الحرب نفسها.
السؤال الذي سيبقى معلقًا على بوابة عام 2030: هل ما زال في الإمكان إنقاذ اليمن؟ أم أن هذا الوطن الذي عاش عقودًا من الانتظار قد بدأ يغرق فعلًا في صمته الأخير؟.


