"الهوية البحرية كجسر حضاري"..
حين يشبه المتوسط خليج عدن.. "مرسليا وعدن" حكاية مدينتين تصنعان الضوء والملح والتاريخ
في 20 نوفمبر القادم يفتتح في مدينة مرسيليا الفرنسية معرضًا يستمر لمدة 6 أشهر عن تاريخ العلاقات بين عدن ومرسيليا، وهي مبادرة رائعة، فعندما نتحدث عن عدن ومرسيليا فأن أول ما يتبادر إلى الذهن هو البحر والشعور القوي بالارتباط ومصدر الحياة وسرها الكبير وغاسل الهموم كما يقول الحكماء.
مدينتان على الموج.. لا يفصل بينهما البحر بل يجمعهما الضوء - أرشيف
مرسليا وعدن هاتان المدينتان الساحليتان اللتان تفصل بينهما آلاف الكيلومترات تعكسان إيجابيًا بعضهما البعض بكثير من التشابه، عدن في الجنوب العربي ومرسيليا في الجنوب الفرنسي وبتاريخ تأسيسي ضارب في القدم يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد "عدن" ميناء أساسي لمملكة حمير و "مرسيليا" واحدة من أقدم المدن في أوروبا يعود تاريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد أسسها الأغريق القادمون من "فوكايا" في آسيا الصغرى والتي كانت مركز تجاري وثقافي هام في العصور القديمة، وتتشابهان في كثير من الصفات لعل أهمها روحهما المنفتحة على العالم والهجرة المستمرة والقدرة على التفاعل والتعامل مع الآخر وتقديره باحترام وتفهم وهي ميزة عظيمة لسكان المدن الساحلية رغم تعرضهم للغزو والسيطرة في مراحل مختلفة من التاريخ بسبب موقعهما الاستراتيجي والهام.
تتشابهان في طبيعتها الجغرافية أيضا: تحيط بهما الجبال، وتغمرهما السواحل الصخرية ويغمرهما ضوء ساطع يتبدل مع ساعات النهار، خليج عدن المحاط بتضاريس بركانية يتماثل بشكل خيالي مع ميناء مرسيليا الطبيعي الممتد بين التلال والمنفتح على البحر الأبيض المتوسط.
وتشترك المدينتان أيضا في وجود قلعة على جزيرة تجسد جزء هام من تاريخهما البحري والتراثي وتعد رمزًا وطنيًا هام:
• في مرسيليا، "قلعة أيف" Le chateau d'If على البحر الأبيض المتوسط الشهيرة التي خلدها "ألكسندر دوما "Alexandre Dumas بروايته المشهورة "لوكونت دو مونتي كريستو" Le Conte de Monte Cristo، والتي حولت قصته فيما بعد إلى فيلم سينمائي شهير يحكي عن الاضطرابات التي حصلت في "عهد نابليون بونابرت" .
وفي عدن، "قلعة صيرة" التاريخية الواقعة على جزيرة صخرية قبالة الساحل العدني... وتعاني للأسف من الإهمال الشديد!!!،
شيدت كلا القلعتين في أزمان غابرة ولأهداف متعددة: حماية الميناء ومراقبة حركة السفن والدفاع عن المدينة وضمان امن التجارة والملاحة. بقيت صيره رمز للهوية في مدينه لم تخضع بسهوله ولم يفقد أبناها الأمل أبدا.
عدن ومرسيليا مدينتان نابضتان بالحياة، تتسمان بالتنوع والانفتاح وسياحية من الدرجة الأولى، في شوارعها تسمع لغات ولهجات مختلفة، وترى وجوها من ألوان متعددة هما مدينتان للعبور واللقاء، حيث البحر لا يفصل، بل يجمع، وتاريخهما المشترك هو تاريخ الضيافة والتنوع الثقافي والعيش الكريم.
وعندما نتحدث عن عدن ومرسيليا، فإن شريط الذكريات ينساب لهواء البحر الجميل وطعم الأطباق البحرية اللذيذة أو "فواكه البحر" Fruits de mer كما يسميها الفرنسيون والشواطئ الدافئة والخلجان الجميلة والشعور القوي بالارتباط بالطبيعة وحيوية الحياة التي تراها من كل جهة.
تبدأ القصة المشتركة بين عدن ومرسيليا من تبادل سلع قد تبدو بسيطة لكنها كانت مهمة آنذاك، فقبل أن تربط الطائرات بين المدن والقارات ، كانت السفن الفرنسية تغادر موانئ "سان مالو" ومرسيليا متجهة نحو المحيط والبحر الأحمر، وبالأخص إلى ميناء عدن، أحد أكثر الموانئ نشاطًا في المنطقة وحتى قبل افتتاح قناة السويس في عام 1869م ، بدأت الحكاية في القرن السابع عشر، عندما أبحر التجار والمستكشفون الفرنسيون نحو سواحل الجزيرة العربية، منبهرين بثروات الشرق والجنوب ومن بينهم "بيير دو لاروك" Pierre de la Roque ، تاجر من مرسيليا، الذي عاد عام 1644 من المشرق حاملًا أول حبوب القهوة اليمنية إلى فرنسا وبعد سنوات قليلة، فتح أول مقهى في مرسيليا بالقرب من مقر التجار، و أصبحت قهوة الموكا "mocha coffee" اليمنية سلعة فاخرة مطلوبة بشدّة، ورمزًا للذوق والرقي على مدى قرنين تقريبًا.
لعبت مرسيليا دورًا محوريًا في تجارة القهوة، إذ كان ميناؤها مركز تخزين وتوزيع نحو أوروبا بأكملها، بينما أصبحت عدن محطة لا غنى عنها للسفن القادمة لتحميل و تفريغ بضائعها "transit ".
لم تكن تجارة قهوة "المخا" مجرد مسألة ربح مادي، بل كانت رمزًا للقاء بين عالمين الشرق والبحر الأبيض المتوسط، ورمال الصحراء وملح البحر، ثقافتين مختلفتين لكن بروح واحدة منفتحة على العالم.
وفي تلك الفترة، استقر عدد من رجال الأعمال الفرنسيين في عدن، مستفيدين من الفرص الاقتصادية التي قدمها الميناء المزدهر حينها، من أبرزهم " أنطونان بيس Antonin Besse " ، المولود في مدينة "كركاسون" الفرنسية Carcassonne عام 1877 والذي سافر إلى مرسيليا عام 1899، توجه بعدها إلى عدن، الميناء الحيوي في الشرق الأوسط والأهم حينها، حيث بدأ نشاطه في تجارة القهوة والصابون والزيوت وجوز الهند وغيره وبفضل رؤيته وجهده أصبح أبرز رجال الأعمال في المنطقة مع الاحتفاظ على ارتباطه العميق بفرنسا وبريطانيا، وتجسد سيرته وإنجازاته الاقتصادية العديدة النشاط المتبادل بين المدينتين: سفن وبضائع وأيضا هناك شخصيات يمنية طموحة قطعوا البحار وتغلبوا على الصعاب ليبنوا جسورا بين الشرق والغرب.
لم تكن التبادلات في اتجاه واحد حيث سلك رجل الأعمال اليمني "هايل سعيد أنعم" الطريق المعاكس، ولد عام 1902م في تعز جنوب اليمن وعمل في البداية في معمل للزيوت في مرسيليا، وعند عودته إلى عدن افتتح متجرًا صغيرًا أصبح لاحقًا النواة والمؤسس لإمبراطورية تجارية وصناعية في مختلف المجلات لا تزال تعمل وتتطور وتساهم إيجابيًا في التنمية على المستوى المحلي والعالمي.
وتعكس قصتهما روح المبادرة والشجاعة التي تجمع بين شعبي عدن ومرسيليا، وروح الريادة الاقتصادية والانفتاح التي تميز المدينتين رغم بعد المسافات.
وفي إطار هذه الروابط، لا يمكننا تجاهل جزء هام من تاريخ الشاعر الفرنسي آرثر رامبو Arthur Rimbaud بعد أن هجر فرنسا والشعر واستقر في عدن عام 1880م وعمل في شركة "باردي وشركاؤه" Bardey & Co في عدن للتجارة ومقرها الأساسي في مرسيليا.
قضى رامبو 11 سنة متنقلًا بين عدن ومدينة "هرر" في الحبشة قبل أن يعود مريضا إلى مرسيليا.
في عام 1891م، توفى في مرسيليا في مستشفى "لأكونسبسيون" Hopital de la Conception عن عمر ناهز السابعة والثلاثين مرددا في آخر لحظات حياته عبارة "الله كريم .. الله كريم" مما أثار الشكوك أنه قد أسلم قبل وفاته ؟، علمًا أن هذا المستشفى الذي فارق الحياة فيه لا زال يعمل حتى يومنا هذا.
ربطت حياة "آرثر رامبو " بين الميناءين : عاش على ضفاف خليج عدن ومات على ضفاف البحر الأبيض المتوسط بوهج الضوء والحرارة وحب الرحيل والمغامرة، ولا يتسع المجال لذكر باقي الشخصيات والأحداث التاريخية والآثار والدي سنكتشفه معا في المعرض القادم في "قلعة لافيل شريتي" Centre de la Vieille-Charite
ويرى بعض الباحثين أن مرسيليا يمكن أن تصبح أول مدينة أوروبية ذات غالبية مسلمة !!!
حيث يبلغ عدد سكانها حوالي المليون ما يقارب سكان عدن وتبلغ مساحتها 241 كم 2 وهي أكبر موانئ فرنسا التجارية وعاصمة للثقافة الأوروبية للعام 2013م.
وحتى اليوم لا تزال عدن ومرسيليا تحتفظان بالهوية البحرية الراقية ويمثلان معا روح التفاؤل والتبادل الإيجابي بين الشعوب، روابطها قديمة ولا تزال حية في الذاكرة وفي القصص التي تربط بين ضفتي البحرين الأحمر والمتوسط عبر الزمن، وتتجدد يوميًا.
ورغم أن المقارنة الحالية غير واقعية في الوقت الحاضر وعاطفية نوعًا ما، بين عدن التي تعيش ظروفًا صعبة وتتدهور فيها البنى التحتية والمعيشية ويعاني أهلها يوميًا ، وبين مرسيليا التي تشهد نموًا وتطورًا مستمرًا كل يوم. المدن العريقة تتغير وتتطور وقد تمرض أحيانا ولكنها لا تموت.
- - نشرت هذه المادة في صحيفة الايام المحلية الصادرة في عدن


