هاني مسهور يكتب:

ماذا سيقول لاريجاني للمرشد خامنئي

من بغداد إلى بيروت، كان علي لاريجاني يسير فوق خط مكسور، لا يوصل شيئًا إلى شيء، فلم تكن زيارته الأخيرة جولة نفوذ كما عرفتها إيران في سنوات صعود مشروعها، بل كانت مسحًا ميدانيًا لمسرح خراب كبير، فالجغرافيا التي شُكّل منها “الهلال الإيراني” تحولت إلى جزر معزولة تتساقط واحدة تلو الأخرى، وكأنها أطلال حلم بدأ مع الخميني عام 1979 وانتهى أمام عيني لاريجاني وهو يتنقّل بين عواصم كانت يومًا ممرّات القوة الإيرانية.

في بغداد، استقبله مشهد السلطة المركزية وهي تضيّق الخناق على الفصائل الولائية التي كانت ذات يوم اليد العليا لطهران، فالدولة العراقية تعيد رسم خطوطها الحمراء بمداد السيادة الوطنية، لا بمداد الوكيل، والبرلمان والحكومة يتحدثان عن دمج السلاح في الدولة، وعن ضبط الحدود، وعن أمن وطني عراقي منفصل عن أجندات الخارج. ففي كواليس اللقاءات، كان واضحًا أن بغداد اليوم ليست بغداد الأمس، وأن المزاج الرسمي والشعبي يميل إلى تخليص الدولة من ثقل الوصاية الإيرانية التي باتت عبئًا على الداخل.

وفي بيروت، لم يجد لاريجاني سوى حزب الله محاطًا بعزلة متزايدة، ورئيس جمهورية يتحدث أمامه بوضوح عن السيادة ورفض السلاح خارج الدولة، وحلفاء الأمس يضعون شروطًا، والخصوم يرفعون سقوفهم، والشارع اللبناني المنهك من الانهيار الاقتصادي يزداد ضيقًا بسلاح الحزب الذي لم يعد قادرًا على فرض شروطه كما في السابق، أما الحاضنة الشعبية، التي طالما تغذّت على خطاب “المقاومة”، فقد استنزفتها الحروب والحصار، وأصابها اليأس من وعود النصر المعلّق.

حين يجلس لاريجاني أمام علي خامنئي بعد هذه الجولة، لن يحتاج إلى تقارير مطوّلة أو خرائط تفصيلية. سيكفيه أن يقول "سيدي، الهلال صار نصف قمر، والفراغات التي خلفتها خسائرنا لا تملؤها خطب ولا مواكب"

أما دمشق، فقد غاب عنها النظام الذي كان يشكل الرئة البرية لمشروع إيران، وسقوط نظام الأسد لم يكن سقوط حليف وحسب بل انهيار عقدة الوصل البرية التي كانت تربط الجناح الشرقي للمشروع الإيراني بجناحه الغربي، فسوريا، التي تحولت بعد 2011 إلى مسرح اختبار القوة الإيرانية، انتهت إلى خروجها من المعادلة كأرض آمنة لخطوط الإمداد، وهكذا، انقطع الشريان الذي حمل لسنوات السلاح والمقاتلين والرسائل السياسية من طهران إلى بيروت.

لكن الضربة التي حولت هذا الخراب إلى إعلان وفاة للمشروع جاءت من حرب الـ12 يوما مع إسرائيل، تلك الحرب التي نزعت ما تبقى من أسطورة الردع الإيراني، وحوّلت الممر البري من طهران إلى بيروت إلى خريطة مشطوبة، ولم تكن تلك الحرب جولة عسكرية فحسب، بل عملية جراحية دقيقة قصّت أوتار النفوذ، وأبقت أيّ محاولة للترميم تحت رقابة مباشرة من تل أبيب، ما يجعلها استحالة إستراتيجية، فإسرائيل لم تكتفِ بالضربات الموجعة، بل زرعت على طول الممر”عيونًا وآذانًا” تحول دون عودته إلى ما كان عليه.

هذه الحقائق الميدانية تعني أن الهلال الإيراني، الذي حلم به الخميني قبل أكثر من أربعة عقود، انهار في ثلاثة مواضع رئيسية: سقوط نظام الأسد، والضغط العراقي الرسمي على الميليشيات، وانكسار حزب الله سياسيًا ومعنويًا في لبنان، والنتيجة، أن المشروع الذي بُني على فكرة تصدير الثورة عبر وكلاء مسلحين فقد اليوم أعمدته الثلاثة.

إيران، التي لم تربح حربها مع العراق رغم 8 سنوات من القتال في ثمانينات القرن العشرين، وخرجت يومها من جبهة الجنوب وهي تشرب “كأس السم” بيد الخميني، لتعود اليوم وتتجرّع كأسًا أشد مرارة بعد هزيمتها المذلة أمام إسرائيل في حرب الـ12 يوما، والفرق أن تلك المرة كانت نهاية حرب استنزاف على جبهة واحدة، أما اليوم فهي هزيمة على جبهات متعددة، تُسقط معها مشروعًا إقليميًا كامل البنية.

في هذا السياق، لم يتبقَّ بيد طهران إلا ورقة الحوثيين في اليمن وهي ورقة المقايضة الأخيرة، التي يمكن أن تعرضها في السوق التفاوضي مع الأميركيين تحت بند “لعل وعسى”، فالحوثيون اليوم هم الذراع الإقليمية الأكثر نشاطًا، والقادرة على التأثير المباشر في أمن الملاحة العالمية عبر البحر الأحمر وباب المندب، وهذه القدرة تجعلهم أداة تفاوضية يمكن لطهران أن تلوّح بها، لاسيما في لحظة تحتاج فيها واشنطن وحلفاؤها إلى ضمان حرية التجارة البحرية.

لكن هذه الورقة ليست محصّنة، أولًا، لأنها تتحرك في مسرح مكشوف أمام قوة بحرية وجوية دولية متفوقة، وأيّ تصعيد من الحوثيين يمكن احتواؤه أو ضربه خلال ساعات، ثانيًا، لأن أيّ مقايضة بها ستتم على مرأى من تحالفات بحرية دولية، ومع أطراف عربية وإقليمية لن تقبل بصفقة تتجاوز أمن باب المندب وقناة السويس، ثالثًا، لأن الحوثي نفسه ليس وكيلًا يمكن التحكم فيه بزرّ، بل فاعل سياسي وعسكري له حساباته وسلطته واقتصاد حربه، ما يجعل التنازل صعبًا إلا إذا تحوّل إلى مكاسب داخلية تضمن بقاءه مسيطرًا في الشمال.

إيران اليوم لا تواجه أزمة نفوذ بل أزمة وجود لمشروعها الإقليمي، فمرحلة "تصدير الثورة" انتهت، وبدأت مرحلة "إدارة الانكماش" في ظل موازين قوى جديدة

إيران تدرك أن القيمة الحقيقية للحوثيين في التفاوض تكمن في قدرتهم على “التصعيد القابل للضبط،” أي أن يظلوا مصدر قلق مستمر يمكن تهدئته أو إشعاله وفق الحاجة، لكن هذا النوع من التصعيد له حدوده،  فإذا خرج عن السيطرة وأدى إلى تدويل كامل للممرات البحرية، فستفقد طهران الورقة قبل أن تحصل على ثمنها.

جنوب اليمن لم يعد رهينةً لحسابات ضيقة؛ فالقضية الجنوبية، في مقابل الحوثيين تحولت إلى عامل توازن صنع في واقع السياسة، ومعادلةً تتجاوز ما كان عليه الحال قبل عام 2011 وحتى 2015. هذه المعادلة تدركها إيران قبل جميع الأطراف الأخرى، ومع ذلك، فإن هذه الورقة، واقعياً، لا يمكن أن تمنح الإيرانيين الكثير من التوقعات.

حين يجلس لاريجاني أمام علي خامنئي بعد هذه الجولة، لن يحتاج إلى تقارير مطوّلة أو خرائط تفصيلية. سيكفيه أن يقول “سيدي، الهلال صار نصف قمر، والفراغات التي خلفتها خسائرنا لا تملؤها خطب ولا مواكب، ما بنيناه منذ 1979 تهاوى الآن أمام أعيننا، وما تبقى بأيدينا ورقة واحدة قد تحترق قبل أن تُستبدل بثمن يليق بها، لقد اعتدنا شرب كأس السم، لكن هذه المرة لا نعرف إن كان هناك ماء بعده لنغسل المرارة.”

هذه ليست نغمة انهزام، بل نغمة اعتراف بحقيقة أن إيران اليوم لا تواجه أزمة نفوذ بل أزمة وجود لمشروعها الإقليمي، فمرحلة “تصدير الثورة” انتهت، وبدأت مرحلة “إدارة الانكماش” في ظل موازين قوى جديدة تكتبها الطائرات الإسرائيلية من الجو، وتفرضها الجغرافيا السياسية من الأرض، بينما الأذرع التي بنتها طهران تتحول من أدوات توسع إلى أوراق مساومة أخيرة، قابلة للاحتراق عند أول هبّة ريح معاكسة.

ومن المهم الالتفات إلى يوم 7 أكتوبر 2023، ليس فقط لأنه هجوم إرهابي يُعد نسخة مكرّرة من اقتحام جهيمان العتيبي للحرم المكي عام 1979 وهجمات 11 سبتمبر 2001، بل لأنه كان قراراً من حركة حماس، بتوجيه إيراني، للانقلاب على عملية التسوية التي كانت ستمهّد لإقامة الدولة الفلسطينية، ثم جاء القرار الأكثر حمقاً بإسناد غزة، فكانت النتيجة أن المحور الإيراني تكسّر بفعل الضربات الإسرائيلية المسنودة أميركياً، وهنا تكمن هزيمة عميقة في ذهنية جماهير إيران، وانهيار كامل للسردية التي بدأت مع الخميني وانتهت مع حسن نصرالله في القبو الذي قُتل فيه، إنها مسألة وجودية في الوعي الإيراني لم تعد قائمة.