هاني مسهور يكتب:
إسرائيل بعد الحرب: هل ما زال التطبيع هدفًا أم تحوّل إلى أداة أمنية؟
بعد حرب أكتوبر 1973 تحدث الرئيس المصري أنور السادات أن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط، وأنه لم يكن يخوض حرباً متكافئة مع إسرائيل، لم يعد الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر يشبه شيئًا مما كان قبله، اللحظة التي اعتقدت فيها إسرائيل أنها ما تزال قادرة على إدارة الإقليم بمنطق “الاستثناء التاريخي” انتهت تمامًا، فالتاريخ الذي بُني على تفوق عسكري مطلق، وتحالف أميركي ثابت، وبيئة عربية عاجزة عن تشكيل توازن مضاد، اصطدم بواحدة من أعنف لحظات الانكشاف الاستراتيجي بعد هجوم 7 أكتوبر وما تلاه من حرب غيّرت كل ما اعتبرته تل أبيب مسلّمات، إسرائيل التي لطالما تصرّفت بثقة مطلقة، بدأت تسمع لأول مرة صدى جملة محمد حسنين هيكل، الذي قال قبل نصف قرن، وهو يحلل مستقبل العلاقات الأميركية الإسرائيلية: “التحالفات ليست أبدية، والقوة ليست ضمانًا مطلقًا، كل دولة تعيش بقدر ما تفهم اللحظة، لا بقدر ما تتشبّث بماضيها”، وهذه العبارة ليست مجرد حكمة تاريخية، إنها انكشاف سياسي كامل لما تمر به إسرائيل اليوم، لقد تغيّرت اللحظة، وتغيّر العالم، وإسرائيل وحدها تتشبّث بماضٍ لم يعد موجودًا.
قبل 7 أكتوبر، كان مشروع إسرائيل المركزي هو توسعة الاتفاقيات الإبراهيمية، كانت ترى في التطبيع مع السعودية ذروة مشروعها الإقليمي، وفي دمجها داخل الهندسة الشرق أوسطية أداة لتحييد إيران وكسر دائرة الصراع التقليدية، غير أن المفاجأة كانت أن التطبيع لم يمنع الحرب، ولم يحمِ الجبهة الداخلية، ولم يعطِ إسرائيل ما كانت تتخيله من استقرار بالعكس، كشفت الحرب هشاشة الرهان على السلام وحده في مواجهة خصم عقائدي مثل إيران، يمتلك شبكة ممتدة تمتد من غزة إلى جنوب لبنان، ومن صنعاء إلى مياه البحر الأحمر، مرورًا بوكلاء لا يرون في الدولة إلا محطة عبور لمشروع يتجاوز الجغرافيا.
حرب الـ 12 يوم على إيران وقبلها سقوط نظام الأسد في سوريا هذه حوادث كبرى في الشرق الأوسط تتطلب وقتاً لارتادتها، ملفات لبنان واليمن والسودان وليبيا وحتى سوريا مازالت تتفاعل
هنا بالضبط تغيّر العقل الإسرائيلي، لم تعد الاتفاقيات الإبراهيمية غاية بذاتها كما كانت قبل الحرب، بل تحولت إلى أداة داخل مشروع أكبر، مشروع العودة بالشرق الأوسط إلى ما قبل 1979، أو على الأقل إلى بيئة تشبه تلك اللحظة، حين كانت إيران دولة تتعامل وفق مصالح الدولة، لا وفق مشروع الثورة، إسرائيل اليوم لا تخفي رغبتها على المستوى الاستراتيجي برؤية نظام إيراني جديد.. نظام راديكالي في خطابه، لكنه مفصول السيادة، ومستعد للتطبيع مقابل بقائه، أقرب إلى النموذج السوري مع أحمد الشرع، لا النموذج الثوري الذي رسخته إيران بعد سقوط الشاه.
وبرغم أن هذا الطموح يبدو بعيدًا، إلا أن الحرب الأخيرة فتحت أمام إسرائيل نافذة جديدة للمراجعة، فقد أثبتت الضربة المشتركة للمشروع النووي الإيراني أن طهران ليست قوة فوق المساءلة، صحيح أنها احتفظت بقدرتها على تحريك وكلائها، لكنها فقدت جزءًا كبيراً من هيبتها، وتعرضت لكسور داخلية، وشهدت انكشافًا بحريًا لم يكن ممكنًا قبل سنوات، وكل هذا جعل الإسرائيليين يعيدون التفكير.. هل يمكن أن يكون الحل الحقيقي ليس التطبيع وحده، ولا الردع وحده، بل تغيير البيئة السياسية التي تنتج الخطر؟ وهنا تصبح عبارة هنري كيسنجر بعد اتفاق كامب ديفيد من أكثر العبارات التصاقًا بالواقع: “أمن إسرائيل لا يمكن ضمانه فقط بتفوقها، بل بالبيئة التي تحيط بها”.
هذه البيئة اليوم ليست إسرائيل وحدها ولا الخليج العربي وحده، بل شبكة متعددة الأطراف تضم السعودية وتركيا ومصر والإمارات، إضافة إلى الدول الصاعدة في القرن الأفريقي، وكل هذه القوى باتت شريكًا لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن لإسرائيل أن “تُدار فوقه” كما فعلت لعقود، وقد أدركت تل أبيب أن بيئة الإقليم بما فيها السعودية وتركيا ومصر أصبحت أكثر تأثيرًا في أمنها من تفوقها العسكري نفسه.
السعودية، على سبيل المثال، انتقلت من دولة نفطية إلى لاعب جيوستراتيجي يحدد مسار التوازن بين واشنطن وبكين، و(تحاول) رسم معادلة البحر الأحمر والممرات البحرية، وتركيا أصبحت قوة حاسمة في سوريا والبحر الأسود والقرن الأفريقي، قادرة على تشكيل معادلات أمنية لا يستطيع أحد تجاهلها، ومصر، رغم أزماتها، بقيت حجر الأساس في ملف غزة، والبوابة التي لا يمكن لأي هندسة أمنية تجاوزها.
كل هذا تغيّر في لحظة كانت إسرائيل تعتقد أنها تُمسك بزمام الإقليم وحدها، فجاءت حرب غزة لتكشف حدود القوة وحدها، وتكشف كلفة الاحتلال، وكلفة الحروب، وكلفة التحالف الأعمى، والأهم من ذلك، جاءت الحرب لتخلق صدعًا كبيرًا داخل المجتمع الأميركي نفسه، لأول مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين، يجد البيت الأبيض نفسه في مواجهة يسار عالمي يصنع خطابًا مضادًا لإسرائيل، ويعيد تعريف الصراع من زاوية حقوقية وأخلاقية لا تقبل التبرير التقليدي، الجامعات، النقابات، الصحافة الليبرالية، الشباب الأمريكي جميعها ساهمت في خلق مناخ جديد جعل دعم إسرائيل مكلفًا أخلاقيًا وسياسيًا، ولم يعد بمقدور واشنطن الدفاع عن كل خطوة إسرائيلية كما كانت تفعل سابقًا. حتى إسرائيل نفسها تعيش انقساماً حاداً سياسات اليمين الأحادية قادت البلاد لأزمات معقدة وصلت لحد تعريف الهوية السياسية للدولة .
إسرائيل تريد شرق أوسطًا مستعدًا لمواجهة إيران، وتريد إيران بلا مشروع عابر للحدود، وتريد بيئة عربية تتعامل معها كدولة جزء من الاستقرار، لا جزء من الصراع، هذا هو الهدف الجديد
والتحولات داخل الولايات المتحدة ليست أقل تأثيرًا من التحولات داخل الشرق الأوسط، الحزب الجمهوري نفسه بات يضم تيارًا انعزاليًا يرى أن الدعم غير المشروط لإسرائيل لا يخدم “أمريكا أولًا”، وفي الحزب الديمقراطي، أصبح التعاطف مع الفلسطينيين جزءًا من خطاب الجيل السياسي الجديد، اللوبي المؤيد لإسرائيل لم يعد قادرًا على ضمان الإجماع التقليدي، وهذا وحده كافٍ لإعادة تعريف العلاقة من أساسها.
كل هذه العوامل أعادت صياغة السؤال المركزي.. هل تريد إسرائيل توسعة الاتفاقيات الإبراهيمية؟، نعم، لكن هل ما زالت هذه الاتفاقيات غاية استراتيجية كما كانت قبل الحرب؟، لا، اليوم أصبحت الاتفاقيات جزءًا من حزام أمني يريد الإسرائيليون من خلاله محاصرة إيران، لا مجرد الاندماج في الإقليم، وأصبحت تل أبيب ترى أن التطبيع مع السعودية وتركيا ومصر ليس مشروع سلام فقط، بل مشروع أمن، ومشروع نفوذ، ومشروع بيئة إقليمية جديدة تعيد إنتاج ما قبل 1979 بصورة مختلفة.
إسرائيل تريد شرق أوسطًا مستعدًا لمواجهة إيران، وتريد إيران بلا مشروع عابر للحدود، وتريد بيئة عربية تتعامل معها كدولة جزء من الاستقرار، لا جزء من الصراع، هذا هو الهدف الجديد، وهو الهدف الذي يجعل التطبيع خطوة، لا نهاية، ويجعل إعادة تشكيل النظام الإيراني أو على الأقل ترويضه جزءًا من استراتيجية البقاء، لا مجرد حلم سياسي.
لم تعد إسرائيل قادرة على العيش بمنطق التفوق وحده، ولا بمنطق التحالف الأعمى، ولا بمنطق “الاستثناء التاريخي”، لقد وصلت إلى اللحظة التي وصفها هيكل بدقة: “الدولة التي لا تفهم لحظتها.. تفقد موقعها، مهما امتلكت من القوة”.
ولم يعد أمام إسرائيل سوى أن تعيد تعريف نفسها في شرق أوسط جديد، أو أن تجد نفسها خارج الإيقاع الذي طالما قادته.
حرب الـ 12 يوم على إيران وقبلها سقوط نظام الأسد في سوريا هذه حوادث كبرى في الشرق الأوسط تتطلب وقتاً لارتادتها، ملفات لبنان واليمن والسودان وليبيا وحتى سوريا مازالت تتفاعل، قد يبدو أن فكرة الدولة الهجينة التي أنتجت في سوريا تشكل إغراء للسياسات الأميركية لكن يبقى الرهان على مدى استيعاب إسرائيل لسؤال اللحظة.. هل مازالت ترغب في توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية؟

