عريب الرنتاوي يكتب:

"جهاديون" للإيجار

عدت للتو من مؤتمر عُني بأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، حيث صدمني سؤال لمشارك أفريقي رفيع المستوى، طرحه على مسامعنا على صورة "تحدٍ": هل من تفسير لتطابق خريطتي انتشار "داعش" في أفريقيا وخريطة طريق الحرير الصينية؟، قبل أن يمتنع صاحبنا عن مواصلة الكلام المباح، لكأن مقتضيات موقعه الرسمي أدركته قبل أن تنهال عليه أسئلتنا واستفساراتنا.

 

ليست مندرجات "نظرية المؤامرة" هي من أملت على صديقنا طرح سؤال استبطن الجواب ضمناً، بل هي بعض الحقائق والأدلة التي سنستوضحها منه لاحقاً، في لقاء حمل خاتم" تشاتم هاوس رولز".

 

تبين لنا أنها قناعة تيار أفريقي عريض، ترى في استدعاء "الجهاد" لشرق أفريقيا وساحلها وغربها، محاولة لاعتراض دروب "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، والصين كما نعلم جميعاً، تحتل اليوم موقع الصدارة على رأس قائمة المهددات العالمية للأمن القومي الأمريكي، وتُصنف بوصفها العدو الأكثر خطراً على مستقبل أمريكا وهيمنتها على الساحة الدولية.

 

لست أجزم بصحة هذه "النظرية" أو عدمها، فالتاريخ عندي كما قال هيكل ذات مرة، ليس مؤامرة، بيد أنه لا يخلو منها كذلك، لكن قصة صعود داعش تحت سمع "التحالف الدولي" وبصره في شرق سوريا وغرب العراق، ما زالت حافلة بالكثير من المعلومات والصور، عن "التواطؤ" و"إغماض الأعين"، بانتظار تحقيق مرامي محددة، تنسجم مع حسابات واشنطن وأولوياتها..

 

ولنا في السجال الأمريكي النخبوي الدائر عن مسؤولية إدارات وشخصيات ودوائر أمريكية عن صعود داعش، ما يكفي لتكريس هذه القناعة، أو على الأقل لإسباغ قد من المشروعية على السؤال الأفريقي.

 

ثم لماذا نستغرب سؤال زميلنا الأفريقي عن خرائط داعش ودرب الحرير، ونحن (أنا) من أبناء جيل، كان شاهداً على إطلاق أكبر موجة جهادية في التاريخ البشري ضد "الخطر الشيوعي" في أفغانستان، ونحن من أبناء منطقة صدّرت عشرات الألوف منهم إلى مختلف ساحات الجهاد، وبدعم وتنسيق من واشنطن زمن الحرب الباردة، طالما أن الهدف "تقويض الاتحاد السوفياتي" الذي ارتبطت به كل شرور العالم وموبقاته.

 

ولماذا يستغرب السؤال من هم في جيلنا ممن كانوا شهوداً على نجاح عواصم عدة، وبرعاية واشنطن وتواطؤها، في "إعادة توجيه" السلفية الجهادية مع مطلع القرن الحادي والعشرين، والتعبير مستعار من سيمون هيرش في ”نيويوركر“، لتصبح وظيفتها هذه المرة، التصدي لـ"الخطر الشيعي" بعد أن تنامى نفوذ إيران وتحوّل هلالها إلى "مربع" بعد أزمة اليمن..

 

لم يغرب هلال إيران وبقينا نحن مع توابع وذيول الموجة التالية من السلفية الجهادية، تدفع ثمنها أقطارنا من أمنها واستقرارها، بدلالة ما حصل ويحصل في دول الأزمات المفتوحة في عالمنا العربي.

 

لست أذهب مذهب القائلين بـ"أبوة" واشنطن للجهاديين، من القاعدة حتى داعش، فهذه ظواهر من إنتاجنا نحن، بيئة ومجتمعاً وموروثاً سياسياً وثقافياً وأنظمة حكم ومؤسسات دينية.. بيد أنني لا أستبعد أبداً، بل وأرجح تماماً، ميل واشنطن وبعضٍ من حلفائها وأصدقائها في العالم، لتوظيف هذه الظاهرة الشاذة، لتسوية الحساب مع خصوم متعاقبين.

 

قبل ثلاثة عقود، صدر للكاتب البريطاني باتريك سيل، كتاب ”بندقية للإيجار“، يروي فيه سيرة صبري البنا المعروف باسم "أبو نضال"، وكيف وضع الرجل بندقيته برسم الإيجار لمن يدفع من أجهزة المخابرات العربية..

 

اليوم، نحن أمام حُزَمٍ من البنادق المعروضة للإيجار وإن بمستويات أكبر وأوسع مما توفر للرجل الأخطر في الحركة الوطنية الفلسطينية، وبصورة أشد تعقيداً وأكثر إثارة.. اليوم تنتقل السلفية الجهادية من الحرب على الخطر ”الشيوعي“ و“الشيعي“ إلى محاولة عرقلة وإعاقة التنين الصيني.