طاهر علوان يكتب:

"تطبيق" برمجيات حديثة تُشوّه سلوك البشر

ترصد سينما الخيال العلمي ثيمة الذكاء الاصطناعي التي تدخل في مفاصل كثيرة من حياة الإنسان، في نوع من القراءة المستقبلية للشكل الذي سوف تكون عليه العلاقات الاجتماعية وصورة المجتمع برمته في ظل سيطرة التطبيقات والبرمجيات الحديثة على الواقع الجديد.

يحضر الذكاء الاصطناعي في العديد من أفلام الخيال العلمي من خلال صورة الفرد وكيف تأثرت حياته بذلك الواقع الجديد، وغالبا ما يكون هناك شعور بالوحدة والعزلة ينتاب الكثير من تلك الشخصيات التي تعيش الذكاء الاصطناعي بجميع تفاصيله، وسوف يذكرنا “تطبيق” بفيلم “أي.أم.آي” للمخرج راستي نيكسون والذي سبق وأن عرضنا له في هذه الصفحة، حيث يقدّم صورة مروّعة لسيطرة الذكاء الاصطناعي المفضي إلى ارتكاب جرائم بشعة.

ولعل ما يلفت النظر هنا، هو كيف تتحوّل حياة الفرد إلى ما هو أفضل وأكثر تطورا، وهو توقع منطقي، لكن تمكّن الذكاء الاصطناعي لا يجلب في الغالب إلّا تعقيدات ومشاكل وصراعات وبؤسا من نوع جديد.

في هذا الفيلم للمخرجة إليسيا فوكساس سوف ندخل مدخلا بسيطا من خلال علاقة عاطفية تربط بين شابين هما: نك (فنيسنو كريا) وصديقته (جيسيكا كريسي)، حيث يدرس كلاهما في الولايات المتحدة، فالشاب نك هو ممثل موهوب، فيما تدرس صديقته مجال علوم الاتصالات والتواصل الاجتماعي، وتحديدا التطبيقات والبرمجيات الحديثة وكيفية تأثيرها على حياة الأفراد.

تقرّر الصديقة أن تزجّ بصديقها عن حسن نية في أحد تطبيقات التعارف والمواعدة لغرض أن تعدّه من بين الحالات التي تقوم بدراستها. وفي الأثناء يعود الممثل الموهوب إلى إيطاليا حيث بانتظاره دور مهم في فيلم عن حياة المسيح يقوم هو ببطولته.

نك، شاب ينحدر من عائلة ثرية والتمثيل بالنسبة إليه استمرار لذلك المستوى الاجتماعي والشهرة، وهو بسيط في خبراته ومفردات حياته، حتى إذا تدفقت عليه تلك الأصوات القادمة من فتيات مجهولات، يبدأ في الغرق فيها مهما حاول التخلص منها.

شخصية تمّ رسمها بعناية، حيث الشهرة والثراء ليسا كافيين لملء فراغات الشخصية ودورانها حول نفسها. يبحث نك بين من يعرف، من تقرأ ذاته بشكل جيد، وهو ما احترفت فيه ماريا (الممثلة مايا سانسا)، الشخصية المجهولة في التطبيق التي تحاوره وتلاحقه وتقلب حياته رأسا على عقب.

الذكاء الاصطناعي بات يتوغّل في الحياة الشخصية للبطل، ويكشف طباعه وأفكاره وأسراره الخاصة

هذا النسيج الاجتماعي الخارجي المرتبط بشخصية هذا الشاب اللامع يرافقه بالمقابل عالم آخر، هو عالم الذكاء الاصطناعي الذي صار يتوغّل في حياته الشخصية ويكشف طباعه وسلوكياته وأفكاره وأسراره الخاصة وغيرها.

في المقابل، تنشئ المخرجة خطا سرديا آخر لا يقل براعة عن الخطوط السابقة من خلال شخصية قليلة الكلام، وهي أوفيليا (الممثلة جريتا سكارانو)، الموظفة في الفندق الذي يقيم فيه نك، فترعى شؤونه واحتياجاته، لكنها تبدو غريبة الأطوار في عزلتها وصمتها من جهة، ثم نكتشف أنها متدينة وتبحث عن الخلاص وكل ذلك يجري فيما يتقمص نك شخصية السيد المسيح.

كل شيء سوف ينهار فجأة، ذلك الكائن المجهول (ماريا) سوف يغيّر جميع المسارات، يفقد نك قدرته على العمل والتركيز لأنه ملاحق بذلك الصوت الذي ينبض في داخله، علاوة على إهماله لصديقته التي يكتشف في ما بعد أنها حبلى منه.

لا يجد نك مفرا من تلك الدائرة التي أطبقت عليه من جميع الجهات والكابوس الذي ينهش أيامه ولياليه؛ صراع نفسي ووجداني عميق سوف يعيشه نك وهو يحاور ذلك الصوت الذي يناجيه من المجهول، ويتمكن من التغلغل في مناطق مجهولة من شخصيته فتظهر عزلته ووحدته وعجزه عن إدراك الكثير ممّا حوله.

يسقط نك في تلك الحفرة الغائرة التي لن يعرف كيف يخرج منها، لكن وجها آخر لها يتمثل في أوفيليا التي تحاول أن تجرّه إلى الخلاص من خلال إيمانها، بينما تبقيه صديقته في ذلك التطبيق المدمّر. أما ماريا فإنها تدع الأزمة تتصاعد تاركة روح نك تحترق على مهل وسط حطام نفسي واجتماعي لا يعرف له قرار.

الشخصية المأزومة هنا تتشظى على مستويات عدة، فهناك أوفيليا وصديقة نك وكل منهما تحمل شكلا من أشكال الأزمة، بينما يشكل نك محور تلك الأزمة في انقياده العشوائي لصوت الذكاء الاصطناعي الذي تختبئ من وراءه امرأة مجهولة تغير مسارحياته.

على أن التحوّل الدرامي الأكثر أهمية في الفيلم، ذاك الذي أتى من خلال اعتراف ماريا بأنها هي المرأة الافتراضية التي أنتجها الذكاء الاصطناعي وأنها نتاج أبحاث في التحري عن الشخصيات التي تدخل تطبيقات التعارف، حيث تقوم الخوارزميات بالوصول إلى حقيقة قرار الشخصية وطباعها وسلوكها ومشكلاتها وهو ما نفّذته ماريا، ذلك الكائن الوهمي، واستطاعت بكل وسائل الإغواء والتمويه أن توقع بشخص طموح وناجح، هو نك، وتتركه يدور حول نفسه.

لعل ما يلفت النظر في هذا البناء الدرامي المتقن القائم على تنوع القوى الفاعلة في الفيلم، أن انتقالنا من مستويات القوة إلى الضعف في ما يتعلق بالشخصية، تمّ كله على خلفية أزمة حقيقية تم نسجها بعناية حتى بدا نك مُغتربا عن كل ما حوله من أماكن الرفاهية والترف.