طاهر علوان يكتب:

صحافة بلا حكومة

لا يمكن تصور الصحافة في العديد من بلدان العالم وخاصة في العالم العربي من دون حكومة تسيّرها وتراقب ما ينشر فيها.

ولا يمكن تصوّر الصحافة من دون صور المسؤولين ونشاطاتهم.

لكن ماذا لو اختفت الحكومة أو اضمحل دورها إلى ما يشبه تصريف الأعمال فهي تتمتع بصلاحيات محدودة إلى حين؟

بالطبع لا يمكن تخيل ذلك لأن النظام مصمم على ملء هذا الفراغ بأي شكل من الأشكال.

في المقابل، في الحالة البريطانية مثلا، هنالك سباق محموم بين الأحزاب باتجاه الانتخابات البرلمانية التي ستجرى الشهر المقبل.

الحكومة البريطانية هي شبه حكومة تصريف أعمال والحزب الحاكم متحيّر في أمر مستقبل هذا البلد والقضية الجوهرية التي تواجه الجميع هي قضية بريكست.

الصحافة لم يواجهها اضمحلال دور الحكومة فحسب بل واجهها أيضا التنافس بين الأحزب وبشكل خاص بين حزبي المحافظين والعمل وإلى حد أقل حزب الليبراليين الديمقراطيين.

واقعيا لم تشهد المملكة المتحدة مثل هذا الاستقطاب والانقسام الشعبي الحاد بين من هم مع استمرار المحافظين ليقودوا البلد إلى النهاية المرسومة وبين من هم ضد المحافظين ومع حزب العمال لكي يتبادلوا الشتائم كما يشتهون.

يلوّح رئيس الحكومة بوريس جونسن بكتاب الحزب أو برنامجه الانتخابي، لكن الصحافة البريطانية تسخر منه قائلة إنها خواطر بوريس وليست برنامجا للحكومة لأنه عاجز عن إدارة حكومة، وما يكتبه هو يومياته وهواجسه الشخصية وشخصيته الفوضوية.

في المقابل كان الرأي العام قد شعر بالملل الشديد من الظهور اليومي لبوريس رئيس الحكومة ومناوئه جيرمي كوربين زعيم حزب العمال الذي لم يترك تهمة لم يلصقها بخصمه اللدود، وها هما يتقابلان في صراع شرس سيقرر مستقبل ومصير بريطانيا لعقود مقبلة.

الصحافة من جانبها تمضي تحت سقف اللاحكومة ولهذا تمضي في اقتفاء أثر المتناحرين من دون أن تشير ولو إشارة إلى من سوف تنتصر.

الصحافة التي تتحمل مسؤولية وطنية والتزاما مهنيا ليس يهمها من يحمل المزيد من الوعود كبوريس جونسن الذي يعلن أن البريطانيين على موعد مع مفاجآت سارة بالتزامن مع احتفالات رأس السنة والذي لم يتوان كتّاب الأعمدة عن السخرية من وعوده.

أحد كتّاب الأعمدة في الغارديان أيضا يذكّر المتبارين بأصول المناظرات وهم يقارنون ما يشبه المناظرة بين رئيس الحكومة وزعيم المعارضة الحاليين وبين مثيلة لها وقعت في العام 1975 بين وزيرين أحدهما يدعو إلى السوق الأوروبية المشتركة والثاني ضدها، وكيف كان الحوار يسير بمسؤولية وبخلاصات ذات جدوى تقدم للمواطن فوائد جمة.

هنالك بالمقابل عاصفة من الوعود التي يطلقها المتبارون في حال فوز أحدهم برئاسة الحكومة ابتداء من عدم فرض ضرائب جديدة وتعظيم المنافع الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، لكن المراقبين يتساءلون من أين لك الأموال التي سوف تغطي بها كل هذه الإنجازات الافتراضية؟

بل إن هنالك من الصحافيين من اتهم سياسيين بعينهم بأنهم مجرد مهرجين وأن أبرزهم بوريس جونسن الذي يصب الوعود ويناكف المعارضة صباح مساء فيما يعجز عن إثبات رؤيته إلى المستقبل بلغة الأرقام وبشكل مباشر.

وبعد كل هذا تبدو الصحافة البريطانية بصفة عامة وقد تكيفت مع واقع الحكومة واللاحكومة وراحت تصول وتجول في أواسط السياسيين تهاجم الحزب الحاكم وتهاجم المعارضة وتنتقد وتتوسع في الانتقاد والتحليل.

ويلاحظ أيضا أن حتى الذين يروجون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي لا يجدون لأنفسهم طريقا سالكة لأن هنالك قوى أخرى هي التي تتحكم وهي التي تؤثر وتستقطب.

الصحافة من دون الحكومة تثبت مرة أخرى أنها قادرة على خوض السجالات بلا خوف ولا تردد من إمكانية أن ترتفع أسهم جونسن مجددا أو تنزل بها إلى القاع وكذلك تفعل مع المعارض.