طاهر علوان يكتب:

الصحافة راعية الانقسام

في المشاهد الأكثر استقطابا وتعبيرا عن الانقسام السياسي والاجتماعي تحضر الصحافة بوصفها شاهدا أمينا وعينا راصدة.

وبعيدا عن أطروحات حارس البوابة وكلب الحراسة، مطلوب من الصحافة والصحافيين في أزمنة الاستقطاب والانقسام أن يكشفوا عن أنفسهم: هم مع من وضد من؟

ظواهر عدة تعصف بعالمنا المعاش وحياتنا اليومية وخلاصتها تصاعد حالات الانقسام والاستقطاب بشكل يجعل الصحافة في مأزق.

ميزة الحياد ما بين أطراف عدة لم تعد متاحة دائما بل إن من السهل على الصحافة أن تتهم بالتخاذل والعجز في حال لم تفصح عن وجهتها باتجاه أي من الفريقين.

على صعيد الحياة السياسية ويوميات المجتمع البريطاني تبرز قضية بريكست بوصفها إحدى أهم القضايا الخلافية.

الصحافة شاهد على الانقسام الحاد ما بين دعاة البقاء في أحضان أوروبا وبين الانفصال عنها.

في مقال في صحيفة ميترو اليومية للكاتب جيمس هوكاداي تحت عنوان “كيف انقسم المجتمع البريطاني”، يذهب إلى أن الحقائق على الأرض لا تتيح كثيرا من التأويلات لتفسير حالة الانقسام أو تفاقمها حيث يورد إحصائية لآخر الاستطلاعات تظهر تراجعا ملحوظا للجمهور العريض الذي كان مؤيدا لبريكست.

في مقال يصب في ذات الهدف للكاتبة جوديث ميشكا نشرته مجلة بوليتيكو تحت عنوان “بريكست جعلت البريطانيين أشد غضبا وأكثر انقساما”، تشخص ملامح الانقسام في المجتمع البريطاني بسبب أزمة بريكست من خلال انقسام العائلات وتفكك الصداقات بسبب الخلاف على هذه القضية، لكن وفي موازاة ذلك سيبرز سؤال مفاده: كيف كانت مقاربة الصحافة البريطانية لهذه الظاهرة الفريدة وغير المسبوقة التي تعصف بالمجتمع البريطاني؟

واقعيا، لم تجد الحكومة من سبيل إلا التسليم بالأمر الواقع تاركة للصحافة أن تدور في دوامة الاستقطاب باتجاه: مع من وضد من؟

لم يغضب رئيس الحكومة بوريس جونسون على الحملة الشرسة التي تشنها صحافة بلاده والصورة التي يظهر عليها يوميا والأوصاف المقذعة والشكل الكاريكاتيري وظل يخوض صراعاته مع زعيم المعارضة جيرمي كوربين.

على الجهة الأخرى فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلنها صراحة أنه يخوّن بعض الصحف الأميركية وأنها ضد مصالح الشعب وأنها راعية للانقسامات وبالتالي يقرر أن لا يقرأها ويمنع وصولها إلى البيت الأبيض.

في قمة الصحافة الأميركية، تقع صحيفتان هما نيويورك تايمز وواشنطن بوست وكلتاهما مغضوبا عليها وممنوعتان على موظفي البيت الأبيض.

من كونها أكثر الصحف كذبا إلى كونها عدوّة للشعب، تجد الصحافة الأميركية اللامعة من خلال الصحيفتين المنبوذتين حكوميا نفسها في وسط ظاهرة انقسامية غير مسبوقة في المجتمع الأميركي.

من الصعب أن تتجاهل صحيفتان مرموقتان الخطط التي تجري لإدانة الرئيس الأميركي بسبب العديد من الملفات وآخرها ما عرف بملف أوكرانيا وقبلها العلاقة مع روسيا ومؤشرات تدخلها في الانتخابات التي فاز بها الرئيس.

الشعب الأميركي منقسم ما بين رئيس شعبوي يريد أن يعيد أميركا عظيمة وينتصر للعرق الأبيض وبين خصومه الذين يلوحون بعديد ملفات الإدانة والمحاكمة التي قد تطال الرئيس.

يضيع والحالة هذه، مفهومُ الوطنية الملتبس في الحياة السياسية لدولتين عظيمتين لكل منهما ثقل اقتصادي وعسكري ومالي وسياسي استثنائي على مستوى العالم، إذ قد يفسر البقاء في الاتحاد الأوروبي من طرف بريطانيا على أنه في مصلحة البلاد من جميع المستويات وتاليا يكون التشبث بالبقاء على أنه موقف وطني.

يقابل ذلك موقف أشد تطرفا وهو الذي ينادي بالانفصال عن أوروبا لتمجيد القيم البريطانية وترسيخها والعودة إليها والاقتداء بها.

الصحافة من جانبها تؤازر المواطن الذي يعيش أحد أسوأ الأزمنة انقساما وإذكاء للأنا والشعبوية لكنها متهمة على أنها راعية للانقسام لأنها لم تنجح في أن تنضم إلى الفريق “الصح”، لكن من هو الفريق “الصح” يا ترى؟

الفريقان الخصمان، كل واحد منهما يرى نفسه أنه هو الصواب وبيده طريق النجاة.