وائل رفعت سليم يكتب لـ(اليوم الثامن)

ما بين الفن و السياسة (2)

من الملاحظ أن النوعية الرديئة من الآداب والفنون غالباً ما تطفو في فترات ضعف وإضمحلال الأمم ، وفترات الهزائم العسكرية ، وفترات الإنكسارات الثورية ، و في ظل غياب قيادة سياسية أو مشروع وطني يجتمع عليه الناس .
فتجد في بدايات العصر الأموي كانت الفنون والآداب تحمل قيم عصر الرسول محمد صلي الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين من بعده ، وفي فترة إضمحلال هذا العصر عادت معاني وأغراض الآداب إلي نهج العصر الجاهلي من الغزل الفاحش والهجاء ، وكذلك الحال في كافة العصور العربية المتلاحقة ، حتي العصور القديمة في التاريخ البشري سواء الفرعونية أو غيرها تثبت صلة وثيقة بين الفن والسياسة فكلما وجدت القيادة والهدف العام للدولة كلما أرتقي الفن وسما بالإضافة للعقيدة والعلم والوضع الإقتصادي والإجتماعي تؤثر جميعها في الرقي أو التردي .
وقد عرف التاريخ ملوكاً وحكاماً يشترون الأدباء والشعراء لمدحهم أو لذم معارضيهم وقد أستمر هذا حتي اليوم مع كتاب وصحفيين وأدباء وفنانيين وتطور الأمر بداية من العصر الحديث وظهور التكنولوجيا وتطورها مع وجود إحتلال بريطاني فرنسي للأمة العربية فتغيرعلي أثرهم أسلوب تأثير السياسة علي الفن أو العكس .
فتجد تأثير الفن في ثورة 1919 حينما أصدر الإنجليز أمراً عسكرياً بالسجن ستة أشهر والجلد عشرين جلدة لكل من يذكر إسم (سعد زغلول ) فألف بديع خيري طقطوقه بإسم ( يا بلح زغلول يا حليوه يا بلح ) لحنها سيد درويش وغنتها نعيمة المصرية ووزعت في اسطوانات ، نشدها المصريين في كل مناسباتهم ورددها الأطفال في الشوارع كدليل علي تحدي سلطة الإحتلال وإستمرارية الثورة وعدم إنكسارها .
ووصلت مصر إلي المرحلة الأخطر في تاريخ الفن والسياسة بثورة 1952 برز فيها الفن الغنائي الطربي ولمعت الأغنية الوطنية مرتبطة بحالة التوهج الثوري والمتغير السياسي لهذه الحقبة ، وإن نما شكل من أشكال النفاق السياسي أستمر حتي الآن من خلال أغاني للرؤساء تبجلهم وتعظمهم ، كما قدمت السينما المصرية أروع أفلامها حتي 1967 ونضج المسرح وظهر كتاب متميزيين ومخرجين مبدعيين وفنانيين كبار تأثروا بأيديولوجية المرحلة وبحركات التحرر العربية الأفريقية وبالصراع بين العسكريين والأخوان المسلمين والشيوعيين وبالأفكار الجديدة عن اليسار والإشتراكية والرأسمالية والقومية العربية ، وترتب علي هذه الحقبة ضحاياها من الفنانيين والأدباء إستخدمهم النظام سياسياً لتحقيق أهداف الخضوع والسيطرة التامة علي الدولة المصرية لحساب العسكريين بمنهج ( العصا والجزرة ) ، وقفز ذلك كالقنبلة في وجه المصريين بعد نكسة 5 يونيو 1967 وما تبعها من إنكسار عسكري ووطني مؤلم كشف فسادها ما جاء علي لسان ( صفوت الشريف المعروف بالإسم الحركي موافي رئيس منطقة عمليات بإدارة المخابرات العامة سابقاً ) وتحدث عن إستخدام الفنانيين في أعمال جنسية قذرة مع سياسيين ودبلوماسيين وعسكريين عرب وأجانب وتصويرهم في وضعيات جنسية وشاذة للسيطرة عليهم وتوظيفهم سياسياً ، ودخول قيادات مصرية في علاقات مشروعة وغير مشروعة مع فنانات لتحقيق إزدواجية المتعة والشهرة والمال ، وذلك حينما أدلي بأقواله بمبني مجلس قيادة الثورة بالجزيرة في قضية ( إنحراف جهاز المخابرات العامة وما عرف بعمليات الكنترول ) وقد نشرت جريدة التحرير المصرية تلك التفاصيل بتاريخ 3/12/ 2015 بعنوان ( توظيف الدعارة لأغراض سياسية .. الأبطال فنانون ونجوم ) .
وأكد ذلك الإستغلال القذرما نشرته (إعتماد خورشيد) في مذكراتها بصفتها زوجة (صلاح نصررئيس جهازالمخابرات العامة حينها) لحقه إعترافات تم كشفها لفنانيين بعد يناير 2011 .
وبعد 1967 أنتجت أعمال سينمائية بالغة القبح والسوء جزء منها صور بمصر والآخر بلبنان ، لإلهاء المجتمع وخاصة الشباب وإبعادهم عن التفكير والبحث في حال الدولة المصرية بعد النكسة ، إلا أن السادات أدخل تعديلاً حيث سمح بإنتاج أعمال تحمل بعداً سياسياً ( وراء الشمس والكرنك وإحنا بتوع الأتوبيس وزائر الفجر ) والغرض تشويه حقبة عبدالناصر وإضفاء شرعية علي السادات بأنه رجل الحريات والديمقراطية ، وأنتجت أعمال تحدثت عن نصر أكتوبر من خلال قصص عاطفية أثناء فترة الحرب من 1967 حتي 1973 ولم يقدم حتي تاريخه عملاً يوثق حجم العمل العسكري والسياسي بشكل لائق ودقيق .
وبحقبة مبارك تجد إنحداراً أقبح فهي حقبة ما بعد ( إتفاقية كامب ديفيد ) حقبة التفريغ الثقافي والفني والفكري والعلمي لمصر ، قدمت نماذج لا تملك أي موهبة أو إبداع فهي حقبة توريث الفن المتزامنة مع سيناريو توريث الحكم والسياسة ، مع تعزيز التوسع في فضائيات تبث بدون رقابة ( تشدد ديني ، وتشكيك عقائدي ، وتعزير للهجات وألفاظ الإسفاف ، وجنس ، وإلحاد ، وتشييع ، وتبشير، وثقافة الإستهلاك والإتكال ، وثقافة السمسرة والإنحراف والمخدرات ، وثقافة القبلية والعنصرية والتجزيئ ، وثقافة التطبيع والقبول بإسرائيل ، وثقافة الهلع من إسرائيل وأمريكا ) .
وبعد ثورة يناير 2011 كان إلزاماً علي عناصر الثورة المضادة إعادة توظيف المشوهيين فكرياً وأخلاقياً والدفع بهم علي كونهم رموزاً للمجتمع المصري لا يعرفون غير الدونية مستخدميها في فن متواطئ يخضع لتوجهات سياسية وإقتصادية مباشرة ، بشراء فضائيات وصحف لخدمة السياسة ، وصار الفن مسيساً بشكل معلن يعزز التفاهة والغريزة لتكون الحقبة الأسوء في تاريخ السياسة والفن معاً .
فغابت الدراما الجادة الممتعة بل غاب العمل الفني عموماً في تجسيد آمال الأمة وأحلامها ، وغابت عن تقديم واقع حقيقي للمرأة المصرية والتي يصورونها علي كونها غانية وراقصة مستباحة دائما ًحتي ظن بعض العرب أن هذا هو حال المرأة المصرية ، وغابت الرؤية الفنية عن تشخيص ومواجهة المشاكل الإجتماعية للأسرة المصرية ، وغابت عن تقديم المعاناة الفلسطينية والآلام العربية من الصهيونية والديكتاتورية ، وغابت عن بث الأمل للشباب وتقديم القدوة والمثل الأعلي بديلاً عن نموذج البلطجي وتاجر المخدرات ومهرب السلاح والمرتشي ، وغابت عن تصوير الإسلام للعالم من خلال تجارب ناجحة لمصريين وعرب بالخارج ، وغابت عن تجسيد البطولات العربية والإسلامية في التاريخ ، وغابت عن شرح بطولات حرب أكتوبر ، وغابت عن الدفع بالمجتمع نحو العلم والعدل وضرورتهما ، وغابت عن توضيح الفارق بين الإرهاب والمقاومة للمحتل ، وغابت عن طرح خطاب ديني وسطي معتدل ، وغابت عن مناقشة الفتنه الطائفية ، وغابت عن التقريب بين مصر ودول أفريقيا وتبني قضاياها ، إنما التسطيح والتفاهة والغريزة هوهدف السياسيين ينفذ بيد الفنانيين .
ولم يكتفوا بهذا بل أستمروا في تشويه صورة مصر أمام العرب والمسلمين والأفارقة ، بإنضمام بعض الفنانيين إلي نوادي الليونز والروتاري الماسونية مستغلين قوتهم الناعمة في تجميل هذه المنظمات ودعم سياساتها ، بمعني آخر صار الوطن هو ضحية توظيف الفن لخدمة السياسة ونزع الفن من قدرتة الإصلاحية علي سلوك الناس والدولة .
بقلم: وائل رفعت المحامي