زمن التحولات الكبرى..

كيف يقرأ الخبير الصحافي هاني مسهور النظام العالمي الجديد وصعود مشروع دولة الجنوب العربي

يرى الصحفي هاني مسهور أن العالم يشهد تحولات جيوسياسية كبرى تتزامن مع فشل الدولة الوطنية عربيًا، ما يجعل مشروع دولة الجنوب العربي أقرب للتحقق كـ«استقلال ثانٍ» قائم على وعي سياسي وتراكم معرفي، لا على خطاب عاطفي، في ظل نظام دولي متغير.

الخبير الصحافي هاني مسهور يتحدث إلى الإعلامية ميشيلا حداد - اليوم الثامن

أبوظبي

 قال الخبير الصحفي اليمني هاني مسهور إن مشروع دولة الجنوب العربي بات أقرب إلى التحقق مما كان عليه في أي وقت مضى، معتبراً أن ما يصفه بـ«الاستقلال الثاني» لم يعد خطاباً عاطفياً أو رد فعل ظرفياً، بل نتاج تراكم سياسي ومعرفي طويل، وقراءة واقعية لتحولات داخلية وإقليمية ودولية متسارعة.

وجاءت تصريحات مسهور خلال مقابلة مطولة في برنامج القرار الذي تقدمه الإعلامية اللبنانية ميشيلا حداد، حيث ربط بين التحولات الجيوسياسية الكبرى التي يشهدها العالم، وأزمة الدولة الوطنية في الشرق الأوسط، وصعود مطالب إعادة تشكيل الكيانات السياسية، وفي مقدمتها قضية جنوب اليمن.

 

في مستهل حديثه، دعا مسهور إلى الخروج من المقاربات المحلية الضيقة، والنظر إلى «خريطة العالم كاملة»، في ظل تعدد الصراعات من الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، مروراً بأوروبا وأوكرانيا، وصولاً إلى أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وبرأيه، فإن هذه النزاعات لا يمكن التعامل معها كأحداث منفصلة، بل كجزء من «زمن جيوسياسي واحد» يتسم بتفكك التوازنات القديمة وبحث القوى الكبرى عن صيغ جديدة لإدارة النظام الدولي.

وأشار إلى أن العالم شهد خلال القرن الأخير تحولات كبرى، بدأت بالحرب العالمية الأولى التي أفرزت نظاماً سياسياً دولياً انتهى بالحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت بدورها نظاماً مختلفاً. وأضاف أن المرحلة الحالية تمثل طوراً جديداً لإنتاج نظام عالمي قد يكون متعدد الأقطاب، لكنه شدد على أن هذا لا يعني تراجع الدور الأميركي أو خروجه من المعادلة الدولية.

وقال مسهور إن «تغييب الدور الأميركي من التحليل السياسي العربي تصور خاطئ»، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة ستبقى فاعلاً رئيسياً، حتى مع بروز قوى أخرى تسعى إلى تقاسم النفوذ.

 

وتوقف مسهور عند ما وصفه بإعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقيدة جديدة للأمن القومي في أواخر عام 2025، معتبراً أنها تمثل لحظة كاشفة في التفكير الاستراتيجي الأميركي. وأطلق على هذه المقاربة اسم «العقيدة الترامبية»، ليس بسبب هوية من صاغها، بل لأنها ركزت، بحسب تعبيره، على فكرة جوهرية طالما تجاهلها العالم العربي، وهي «الاعتماد على النفس».

ورأى أن عدداً من الدول العربية بدأ بالفعل في التحرك ضمن هذا الاتجاه، سواء عبر تنويع مصادر التسليح أو السعي إلى بناء قدرات دفاعية مستقلة نسبياً، وأحياناً اتخاذ قرارات لا تنسجم بالكامل مع الرغبات الأميركية. غير أنه حذر من اختزال الاستقلال الدفاعي في شراء السلاح، مؤكداً أن جوهره يكمن في امتلاك «عقيدة وطنية واضحة» تحكم استخدام القوة وتحدد وظيفة الجيش داخل الدولة.

 

وفي هذا السياق، قدّم مسهور التجربة المصرية بوصفها واحدة من أكثر النماذج تماسكاً في العالم العربي على صعيد بناء الدولة الوطنية. وقال إن مصر نجحت في ترسيخ عقيدة عسكرية عميقة، تسمح لصانع القرار السياسي بالتعامل مع مصادر تسليح متنوعة، سواء كانت أوروبية أو صينية أو هندية أو أميركية، من دون أن ينعكس ذلك ارتباكاً في القرار السيادي.

واستعاد مسهور مسار التحول في العقيدة العسكرية المصرية، من هزيمة عام 1967 إلى حرب أكتوبر 1973، معتبراً أن تلك الحرب شكلت نقطة مفصلية أنتجت «عقيدة دفاعية ناضجة» يمكن لبقية الدول العربية الاستفادة منها، بدلاً من الاستمرار في حالة الاضطراب المزمن في تعريف معنى الدولة والهوية الوطنية.

 

وانتقل مسهور بعد ذلك إلى توصيف أكثر قتامة للوضع العربي، مشيراً إلى أن عدداً كبيراً من الدول فقد عملياً مفهوم الدولة الوطنية. وبرأيه، لا يقتصر هذا الفشل على ضعف الحكومات أو سوء الإدارة، بل يمتد إلى شرعنة وجود جماعات مسلحة داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك البرلمانات، والتعامل معها كأطراف تفاوضية لها حق الفيتو على القرار السيادي.

وضرب مثالاً بلبنان، حيث قال إن الدولة باتت «مرتهنة» لقرار حزب الله بشأن سلاحه، معتبراً أن تصوير الحزب كـ«حائط صد» في مواجهة إسرائيل لا يغير من واقع أن المواطن اللبناني لم يجنِ ثمرة هذا الواقع في الخدمات الأساسية أو الاستقرار أو الكرامة.

وفي مقاربة تاريخية، استعاد مسهور مكانة عدد من العواصم العربية الكبرى، مثل عدن والقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد. وأشار إلى أن بيروت كانت في مرحلة ما مركزاً مالياً ومصرفياً إقليمياً، فيما كانت عدن مدينة اقتصادية محورية، وكانت القاهرة عاصمة للمعرفة والثقافة. وتساءل عن الكيفية التي تحولت بها بعض هذه المدن من مراكز ازدهار إلى رموز للانهيار، معتبراً أن الإجابة لا تكمن في المؤامرات الخارجية وحدها، بل في الإخفاق الداخلي المزمن.

وأكد أن الاستمرار في إلقاء اللوم على العوامل الخارجية، وفي مقدمتها إسرائيل، يمثل «أسهل طرق الهروب من المساءلة»، حتى وإن كان لإسرائيل دور في استثمار الفوضى الإقليمية.

 

وفي حديثه عن إسرائيل، لم ينف مسهور وجود مشروع إسرائيلي يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة، مشيراً إلى الضربات التي استهدفت البنية العسكرية السورية عقب انهيار نظام بشار الأسد، وإلى ما وصفه بخريطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للشرق الأوسط الجديد. لكنه شدد في المقابل على أن تحميل إسرائيل مسؤولية كل الإخفاقات العربية يتجاهل جذور الأزمات الداخلية.

وسأل مسهور بشكل مباشر: «هل دفعت إسرائيل الجنوب إلى الوحدة؟»، مجيباً بالنفي، ومؤكداً أن قرار الوحدة كان قراراً جنوبياً خالصاً. وأضاف أن فشل الدولة الوطنية في السودان أو اليمن أو لبنان لا يمكن تفسيره حصراً بالتدخل الخارجي، بل بخلل بنيوي في تركيب هذه الدول.

 

وخصص مسهور حيزاً واسعاً لانتقاد ما وصفه بعقل «الإسلام السياسي المتطرف»، معتبراً أنه غير قادر على إنتاج سياسات اقتصادية أو علاقات دولية مستقرة، لأنه يقوم أساساً على منطق الصراع والحرب. ورفض في الوقت نفسه تبسيط نشأة هذه الحركات عبر ربطها المباشر بإسرائيل، مشيراً إلى أن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، أو اقتحام الحرم المكي في السبعينيات، أو قيام الثورة الإيرانية، كانت كلها نتاج تفاعلات داخلية معقدة.

وأشار إلى أن إسرائيل نفسها تعيش أزمات داخلية، لافتاً إلى وجود تيارات فكرية إسرائيلية تقدم مراجعات نقدية للتجربة الصهيونية، في مقابل غياب مراجعات عربية جادة لأسباب انهيار الدولة الوطنية.

 

وبرأي مسهور، فإن الشرق الأوسط منطقة حضارات وأديان وقبائل، ومن الطبيعي أن تشهد صراعات، لكن غير الطبيعي هو تحول العوامل الدينية والطائفية والقبلية إلى محركات دائمة للعنف. وقال إن التطرف لا يقتصر على طائفة بعينها، بل يتخذ أشكالاً متعددة، معتبراً أن الشعور بالخوف الوجودي بات القاسم المشترك بين مختلف المكونات.

ومن هذا المنطلق، طرح مسهور فكرة قبول الانفصال، أو إعادة تشكيل الكيانات السياسية، كحل سياسي في الحالات التي تفشل فيها الدولة المشتركة في ضمان الحد الأدنى من العدالة والاستقرار، مع تأكيده في الوقت ذاته على ضرورة احترام الدولة القطرية وتضحيات شعوبها.

 

وعند تناوله الوضع اليمني، قال مسهور إن ما يطرحه الجنوبيون اليوم ليس «انفصالاً» بالمعنى المتداول، بل «فك ارتباط» قانوني وسياسي مع وحدة فشلت في تحقيق أهدافها. وأشار إلى أن الجنوب كان دولة كاملة السيادة قبل عام 1990، وسلم مقعده في الأمم المتحدة طوعاً لصالح الوحدة، قبل أن تنتهي التجربة إلى صراع وحرب.

وبحسب مسهور، فإن «الاستقلال الثاني» يمثل استقلالاً معرفياً قبل أن يكون سياسياً، قائماً على مراجعة شاملة للتجربة السابقة، وبناء علاقة جديدة مع الإقليم والعالم.

 

وأكد مسهور أن مقومات الدولة، من شعب وأرض وقوات مسلحة، باتت متوفرة في الجنوب، وأن القرار السياسي لم يعد حكراً على فرد أو نخبة، بل تعبيراً عن إرادة شعبية متراكمة. لكنه أقر في الوقت ذاته بوجود مقاومات داخلية وإقليمية لأي مسار انفصالي، نتيجة الحساسية التاريخية من إعادة رسم الحدود في المنطقة.

 

ولإيضاح حجم المظلومية الجنوبية، استحضر مسهور مثال مطار سيئون الدولي، قائلاً إن الأرض المقام عليها مسجلة باسم شخصية قبلية من شمال اليمن، في إشارة إلى ما اعتبره سياسة توزيع «غنائم حرب» عقب حرب 1994. وبرأيه، فإن هذا النموذج يختصر شعور الجنوبيين بأنهم تعرضوا لـ«طعن باسم الوحدة»، وأن مطالبهم اليوم لا تتجاوز استعادة الحق والقرار.

 

وفي مقطع لافت، انتقد مسهور الاستخدام الشائع لوصف «اليمن السعيد»، معتبراً أنه توصيف سياحي أكثر منه واقعاً سياسياً. وميّز بين «البلاد السعيدة» كمفهوم تاريخي ارتبط بازدهار الحضارات اليمنية القديمة، وبين واقع معاصر يتسم بالفقر والصراع، مشيراً إلى أن اليمن يمتلك واحدة من أقدم الحضارات البشرية المسجلة، لكن هذا الإرث لم ينعكس دولة حديثة مستقرة.

 

وفي ختام حديثه، أثار مسهور جدلاً إضافياً عبر دعوته إلى إعادة التفكير في اسم الدولة الجنوبية المستقبلية، مقترحاً تسميات تعكس العمق الحضاري والتاريخي للمنطقة، ومعتبراً أن أخطاء التسمية والهوية رافقت تجربة الاستقلال الأول. كما قارن بين تجربة الجنوب وتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، مشيراً إلى أن نجاح الإمارات ارتبط بفهم عميق للنظام الاتحادي، في حين دفع الجنوب ثمناً باهظاً لخيارات إقصائية في مرحلة سابقة.

 

وتعكس قراءة مسهور، كما عرضها في الحوار، تصوراً يعتبر أن التحولات العالمية الراهنة، مع تراجع فعالية الدولة الوطنية في عدد من البلدان العربية، تفتح الباب أمام إعادة تشكيل الكيانات السياسية على أسس جديدة. وفي حالة جنوب اليمن، يرى أن مشروع الدولة بات أقرب إلى الواقع، لكنه يظل رهناً بقدرة الفاعلين المحليين والإقليميين على التعامل معه كحل محتمل للاستقرار، لا كمصدر جديد للفوضى.