إبادة غزة تصل إلى الملاعب الرياضية..
الرياضة في مرمى السياسة: هل ينجو منتخب إسرائيل من الحظر الدولي؟
الملف الإسرائيلي يظل أكثر تعقيدًا، لأنه يتقاطع مع شبكة نفوذ سياسية وإعلامية واسعة، ولأن إسرائيل تحظى بدعم غربي كبير يجعل اتخاذ أي خطوة ضدها محفوفًا بالتحديات.

اختبار أخلاقي حول مشاركة إسرائيل في المنافسات

تشهد الساحة الرياضية الدولية في هذه الأيام نقاشًا محتدمًا حول مستقبل مشاركة إسرائيل في البطولات العالمية، بعد تصاعد الدعوات المطالبة بفرض حظر عليها بسبب الحرب الدامية التي تخوضها في غزة. فقد بدا واضحًا أن ملف المقاطعة الرياضية لم يعد مجرد مطلب شعبي أو حراك جماهيري عاطفي، بل بات قضية مطروحة بقوة على طاولات منظمات دولية وهيئات كبرى مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الأمر الذي يضع إسرائيل أمام اختبار جديد في معركة شرعية وجودها على الساحة الدولية، ليس فقط سياسيًا أو عسكريًا وإنما رياضيًا وثقافيًا أيضًا. الدعوة الأخيرة التي أطلقها خبراء تابعون للأمم المتحدة هذا الأسبوع شكلت نقطة تحول مهمة، إذ حثوا الاتحادات الرياضية والمنظمات الدولية على تعليق مشاركة الفرق الإسرائيلية، مستندين إلى خلاصات لجنة تحقيق أممية اتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهو توصيف ثقيل من الناحية القانونية والسياسية إذا ما قورن بجرائم الحرب أو الانتهاكات الإنسانية التي عادة ما تتداولها المحافل الأممية. مثل هذا الاتهام يمنح دعوات الحظر بعدًا أخلاقيًا وقانونيًا أكبر، ويضع الاتحادات الرياضية أمام حرج بالغ، لأنها لا تستطيع أن تتجاهل بشكل كامل توصية صادرة من مؤسسة دولية بهذا الحجم.
الاتحاد الأوروبي لكرة القدم “يويفا” كان أول من أبدى تجاوبًا ملموسًا مع هذه المطالب، حيث تسربت معلومات عن تحضير اجتماع استثنائي للجنة التنفيذية لمناقشة الموقف، في خطوة نادرة تعكس حجم الضغوط التي باتت تحاصر المؤسسات الرياضية الأوروبية. صحيح أن الموعد لم يتحدد بعد بشكل رسمي، لكن مجرد التفكير في عقد اجتماع على هذا المستوى يوحي بأن الملف بات مفتوحًا على احتمالات عديدة، أهمها التصويت على قرار يقضي بتعليق مشاركة الفرق والمنتخبات الإسرائيلية في جميع المسابقات القارية والدولية. مصادر إعلامية نقلت عن مطلعين أن أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية العشرين يتجهون بالفعل إلى دعم هذا الخيار، وهو ما يعزز احتمال صدور قرار صريح يقصي إسرائيل من البطولات المقبلة، بدءًا من تصفيات كأس العالم 2026. وإذا حدث ذلك فسيكون سابقة خطيرة لإسرائيل، لأنها المرة الأولى التي تواجه فيها عزلة رياضية بهذا الشكل في أوروبا منذ انضمامها إلى الاتحادات الرياضية القارية.
أما الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” فما يزال مترددًا في التعامل مع الموقف، إذ لم يستجب رسميًا لدعوات الأمم المتحدة، وسط أنباء عن ضغوط أمريكية مباشرة تسعى إلى عرقلة أي خطوة قد تفضي إلى تعليق مشاركة إسرائيل. تقارير دبلوماسية تحدثت عن أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتحرك خلف الكواليس لتطويق تداعيات الملف، خشية أن يؤدي استبعاد إسرائيل من المنافسات الدولية إلى سابقة سياسية يصعب تداركها، خاصة وأن القرار سيمنح مشروعية إضافية لمطالبات حركات المقاطعة العالمية BDS، كما أنه سيُقرأ على نطاق واسع بوصفه انتصارًا أخلاقيًا للفلسطينيين. الموقف الأمريكي ليس جديدًا، فقد دأبت واشنطن على حماية إسرائيل في كل المحافل الدولية، لكن الجديد هنا هو أن الحماية قد لا تكون بنفس القوة إذا اتخذت الهيئات الرياضية قراراتها تحت ضغط الرأي العام أو بناءً على مقتضيات قانونية دولية واضحة.
التجربة التاريخية تقدم سوابق مشابهة لما قد يحدث لإسرائيل، إذ شهدت بطولات كبرى استبعاد دول لأسباب سياسية أو عسكرية، كما حدث مع ألمانيا واليابان اللتين مُنعتا من المشاركة في كأس العالم 1950، بسبب تبعات الحرب العالمية الثانية، ومع يوغوسلافيا التي أُقصيت من بطولة يورو 1992 رغم تأهلها، بعد اندلاع الحرب الأهلية وانهيار الدولة، فضلاً عن روسيا التي لا تزال ممنوعة من المشاركة في كأس العالم 2022 ويورو 2024 على خلفية غزو أوكرانيا. هذه الأمثلة توضح أن الرياضة ليست بعيدة عن السياسة كما يُروّج أحيانًا، وأن قرارات الاستبعاد يمكن أن تُتخذ إذا تجاوزت الأوضاع السياسية والأمنية الخطوط الحمراء المقبولة دوليًا. وبالتالي فإن أي حظر على إسرائيل لن يكون حدثًا استثنائيًا في تاريخ الرياضة العالمية، بل امتدادًا لنهج اعتمدته المنظومة الرياضية في مواجهة دول متهمة بانتهاكات جسيمة.
لكن الملف الإسرائيلي يظل أكثر تعقيدًا، لأنه يتقاطع مع شبكة نفوذ سياسية وإعلامية واسعة، ولأن إسرائيل تحظى بدعم غربي كبير يجعل اتخاذ أي خطوة ضدها محفوفًا بالتحديات. ومع ذلك، فإن الحرب في غزة وما رافقها من صور الدمار وسقوط آلاف الضحايا المدنيين، دفعت الرأي العام العالمي إلى مستويات غير مسبوقة من الغضب، وهو ما انعكس على مواقف مؤسسات المجتمع المدني والنقابات الرياضية، التي بدأت تتحرك لإيصال صوتها إلى الاتحادات الدولية. حملات إلكترونية وعرائض وقّع عليها مئات الآلاف خلال الأسابيع الماضية تطالب بفرض عقوبات رياضية، وتؤكد أن استمرار مشاركة إسرائيل يمثل مكافأة لسياسة القتل والحصار، بدلاً من أن يكون رادعًا لها. هذا الزخم الشعبي يضع ضغوطًا حقيقية على صناع القرار الرياضي، ويجعلهم في مواجهة مباشرة مع الاتهامات بالازدواجية إذا ما اختاروا تجاهل إسرائيل بينما سبق أن اتخذوا قرارات صارمة بحق روسيا وغيرها.
البعد الأخلاقي في هذه القضية يبدو محوريًا، إذ تتساءل أطراف عديدة: هل يمكن للرياضة أن تنفصل حقًا عن الواقع السياسي؟ وإذا كانت الرياضة “جسرًا للسلام” كما يصفها البعض، فكيف يمكن أن تستمر فرق إسرائيل في اللعب بينما تغرق غزة في الدماء؟ مثل هذه الأسئلة تُطرح اليوم بقوة في الصحافة الأوروبية والمنتديات الرياضية، وهو ما يفسر الحرج المتزايد لدى “يويفا” و”فيفا” وغيرهما من الهيئات. التناقض الصارخ بين شعارات النزاهة واللعب النظيف وبين صور الإبادة التي تتناقلها الشاشات يوميًا قد يقود في النهاية إلى تحول حقيقي في الموقف، حتى لو كان تدريجيًا.
النتيجة المباشرة لأي قرار حظر ستكون قاسية على إسرائيل، إذ ستفقد منتخبها الوطني فرصة المشاركة في تصفيات كأس العالم، كما ستُحرم أنديتها من المنافسة في البطولات الأوروبية التي تمثل منصة أساسية للترويج لصورتها عالميًا. والأهم من ذلك أن الحظر سيحمل رسالة سياسية قوية مفادها أن إسرائيل ليست فوق القانون الدولي، وأن ممارساتها في غزة لها تبعات تتجاوز الميدان العسكري لتطال ميادين الرياضة والثقافة. على المدى البعيد، سيضع مثل هذا القرار إسرائيل في خانة الدول المنبوذة رياضيًا، وهو ما قد يُعزز عزلة سياسية أوسع.
لكن ثمة من يرى أن الأمر قد لا يتجاوز في النهاية ضغوطًا إعلامية ودعوات رمزية، خصوصًا إذا نجحت الولايات المتحدة في تعطيل القرار داخل “فيفا”، أو إذا اكتفى “يويفا” ببيان قلق دون ترجمة عملية. غير أن تراكم السوابق التاريخية والتصاعد الكبير في الغضب الشعبي العالمي قد يجعلان من الصعب على المؤسسات الرياضية أن تستمر في سياسة الكيل بمكيالين. حتى لو لم يُتخذ قرار الحظر هذه المرة، فإن مجرد طرح الموضوع للنقاش على هذا المستوى يشكل سابقة تفتح الباب أمام محاولات مستقبلية أكثر جدية.
في كل الأحوال، تبقى العلاقة بين الرياضة والسياسة علاقة شائكة لا يمكن إنكارها، وقد أثبتت الأحداث أن الملاعب كثيرًا ما تتحول إلى ساحة موازية للصراع السياسي والدبلوماسي. حالة إسرائيل اليوم تختصر هذه المعادلة بوضوح، فهي دولة تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية وفي الوقت نفسه تصر على الظهور في البطولات الرياضية العالمية وكأن شيئًا لم يحدث. وبينما تصطف أصوات الشعوب خلف مطالب الحظر، يظل السؤال الأبرز معلقًا: هل ستجرؤ المؤسسات الرياضية الكبرى على كسر تقليد الحماية الغربية لإسرائيل، أم أن السياسة ستنتصر مجددًا على مبادئ العدالة والإنصاف؟