خارطة طريق الحل السياسي..

لماذا انتظر الدبيبة ضغوط واشنطن للإفراج عن رواتب الجيش الليبي؟

ثروة ليبيا ليست ملكا لأي كان مهما كان موقعه وإنما هي لكل الليبيين وأي محاولة لاستغلالها

الحبيب الأسود

هل كان على رئيس الحكومة الليبية أن ينتظـر ضغطا أميركيا حتى يأذن بالإفراج عن رواتب منتسبي الجيش؟ السؤال لا يحتاج إلى جهد كبير للإجابة عنه، ولاسيما أن هذه القضية كادت أن تعصف بخارطة طريق الحل السياسي، وتعيد البلاد إلى المربع الأول من الفوضى.

بدأت القصة عندما طلبت وزارة المالية في طرابلس من القيادة العامة في بنغازي قاعدة بيانات كل العسكريين الذين يتوجب عليها دفع رواتبهم، لكن الرد كان سلبيا لعدد من الأسباب منها ما هو أمني، فالكثير من الضباط وضباط الصف والجنود ينتمون إلى أسر تقيم في مناطق لا تزال خاضعة لسلطة الميليشيات، ومنها ما يتعلق بخلاف حاد حول حقيبة الدفاع وتعيين وزير محايد على رأسها عوضا عن المهندس عبدالحميد الدبيبة الذي لا يزال متمسكا بإدارتها إلى جانب رئاسته للحكومة، وكذلك اعتقاد قيادة الجيش بأن السلطة الحالية في طرابلس تكنّ لها العداء، وترفض الدخول معها في حوار مباشر، وتسعى لتأجيل أهم بند في الاتفاق العسكري الذي يكون في الثالث والعشرين من أكتوبر الحالي قد مرّ عام على إبرامه في جنيف، وهو المتعلق بتوحيد المؤسسة العسكرية، والذي لا بد أن تسبقه خطوات جدية في اتجاه حل الميليشيات وإجلاء المقاتلين الأجانب من نظاميين ومرتزقة.

قد يكون من اللافت أن حكومة الدبيبة قررت في هذه الفترة بالذات الامتناع عن صرف رواتب منتسبي الجيش التي كانت تصل لأصحابها حتى أثناء المواجهات العسكرية السابقة، لكن الأمر يصبح مفهوما عندما نعلم أن أحد أسباب رفض البرلمان التصديق على ميزانية العام الجاري هو تعمد الحكومة عدم تضمينها بندا خاصا بمصاريف القيادة العامة، ومحاولة تجاوز ذلك لاحقا بمبالغ زهيدة فيما تصرف المبالغ الضخمة على الميليشيات.

تم صرف رواتب ثلاثة متأخرة لأفراد الجيش بضغط أميركي مباشر، فواشنطن لم تلتزم الصمت أمام تصرفات الدبيبة، ودعته إلى أن يحل المشكلة بسرعة، وهي تعرف أن أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة لقيادة الجيش رفضوا التوقيع على اتفاق جنيف الجمعة الماضي، وأنهم قد يرفضون التوقيع على أي مخرجات جديدة في اجتماع لندن، وأبلغوا موقفهم هذا إلى المبعوث الأممي يان كوبيش الذي أبلغ بدوره الأمم المتحدة، كما أعلم السفير الأميركي بالموضوع ليتدخل بقوة لفض النزاع قبل أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه.

خلال الأيام الماضية شهدت منطقة شرق ليبيا حراكا قبليا لدعم الجيش في مواجهة الحكومة، كما أصدر عدد من النواب بيانا نددوا فيه بإيقاف رواتب الجيش، ودعت لجنة الأمن والدفاع بمجلس النواب إلى الرد على الموقف الحكومي بمنع إنتاج وتصدير النفط من المناطق الخاضعة للقوات المسلحة التي يتزعمها المشير خليفة حفتر، في إشارة إلى مناطق الهلال النفطي والواحات والجنوب الغربي التي تعتبر المصادر الرئيسية للثروة النفطية في البلاد، ثم جاء اجتماع ممثلي برقة في الحكومة من وزراء ووكلاء وزارات برئاسة نائب رئيس الحكومة عن المنطقة الشرقية حسين القطراني، والذي تم خلاله فضح مستويات الصراع بين الطرفين، والتي باتت تهدد بعودة الانقسام، بل إن هناك من بات يدعو علنا إلى الرجوع إلى ما قبل حكومة الدبيبة باستعادة مؤسسات الحكومة المؤقتة التي كان يرأسها عبدالله الثني من سبتمبر 2014 حتى مارس 2021.

اتصل مسؤولو شرق ليبيا بالفاعلين الأساسيين الدوليين في الأزمة الداخلية لبلادهم كالأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقدموا الكثير من المستندات التي تؤكد صحة موقفهم، وطالبوا بتكليف مراقبين دوليين لمراقبة أداء الحكومة، وهو ما جعل السفير الأميركي والمبعوث الخاص لبلاده إلى ليبيا ريتشارد نورلاند يتدخل في محاولة لتجاوز النزاع، وطلب من الدبيبة أن يأذن بصرف رواتب الجيش والأجهزة الأمنية. وهناك من الدول من بات يشعر بالخوف من أن يتم وقف تصدير النفط الليبي ولاسيما في ظل ارتفاع أسعار الطاقة، وهذا كله لأن هناك وجهة نظر في كواليس الحكم في طرابلس يعتقد أصحابها أنهم أمسكوا بخيوط اللعبة، وأنهم يمتلكون القدرة على إقصاء من يعتبرونه عدوهم اللدود في المنطقة الشرقية وهو خليفة حفتر، رغم أنه يحظى باعتراف دولي، ويُنظر إليه كلاعب رئيسي في المشهد السياسي والعسكري والأمني بالبلاد.

يتصرّف الدبيبة وكأن عيون القوم نائمة من حوله، ويدير شبكة من الأقارب وشركاء المصالح المحيطين به، ويصدر القرارات المالية بمباركة من حليفه محافظ مصرف ليبيا المركزي الصدّيق الكبير، ويخوض معركة يومية من أجل تلميع صورته، وبهدف الرفع من مستوى شعبيته بين الشباب والنساء والمتقاعدين وغيرهم، ويعقد الصفقات حيثما حل بين العواصم، ويصرف خلال أشهر قليلة 48 مليار دينار، أي حوالي 10 مليارات دولار أميركي، يخصص منها مليار دولار فقط لإقليم برقة، ومع ذلك لا يصرف المبلغ، ويجمّد رواتب الجيش الحارس لمنابع الثروة التي يتصرّف في إيراداتها، ويتجه لعقد قمتين للنفط في دالاس الأميركية وطرابلس دون أن يقرأ الواقع كما هو على الأرض باعتبار أنه لا يستطيع التصرّف بذلك الشكل ولا عقد الصفقات ولا إرسال الوعود إلا في حالة توحيد البلاد فعليا، وتأكده من أنه يبسط نفوذه حكومته الفعلي على مصادر الطاقة، وأن شبح الانقسام قد ذهب إلى غير رجعة، وأن الجميع متفق على دخول مرحلة جديدة أساسها التوحيد الكامل لجميع المؤسسات.

يحتاج المهندس الدبيبة إلى فهم جملة من الحقائق التي تبدو غائبة عليه، ومنها أنه يخضع إلى رقابة دولية دائمة ومستمرة، وأنه يحظى باعتراف أممي ودولي ويعتبر جزءا أصيلا من أي حل مستدام للأزمة، وأن من ينكرون هذه الحقيقة هم أمراء الحرب وقادة الميليشيات والإخوان والحليفان التركي والقطري ومن يدور في فلكهما في المنطقة، لذلك فإن الضغط الأميركي جاء بالأساس من منطلق الاعتراف بدور الجيش لا في محاربة الإرهاب فقط وإنما كذلك في تأمين منابع الثروة والحدود والحل السياسي، واللجنة العسكرية المشتركة التي يعترف كل العالم بدورها الإيجابي هي مكونة من وفدي قيادة الجيش والمجلس الرئاسي.

إن ثروة ليبيا ليست ملكا لأي كان مهما كان موقعه وإنما هي لكل الليبيين، وأي محاولة لاستغلالها في الضغط على هذا الطرف أو ذاك أو لشراء الضمائر وتلميع الصورة واعتماد دبلوماسية الصفقات لن تحقق أهدافها، ويفترض بالجميع أن يقتنعوا بأن جبر الخواطر وتهدئة النفوس وإعطاء كل ذي حق حقه دون مساومات يمكن أن يحقق ما عجزت عنه كل الأساليب الأخرى، أما السيد الدبيبة، فإنه لم يكن بحاجة إلى ضغط أميركي ليصرف رواتب العسكريين، وإنما كان عليه فقط أن يتعامل مع الواقع كما هو، وأن يتعامل مع خارطة ليبيا ككل ودون تجزئة توافق أهواء البعض ممن يسيطرون على مراكز القرار في طرابلس.