رسم صورة الهجرة غير القانونية..

تقرير: لمّا ينجح مسلسل تلفزيوني في الحديث عن "الحرقة"

أحلام مبنية للمجهول

أسامة رمضاني

لشهر رمضان طقوسه وعاداته صوما وإفطارا وتسلية في تونس وغيرها من مجتمعات المنطقة. وقد اكتسبت تلك العادات على صعيد الاستهلاك التلفزيوني نمطية استجابت طويلا للتوقعات والأذواق واحتياجات شركات الإشهار المتعلقة بنسب المشاهدة المرتفعة أكثر من بحثها عن جودة الإنتاج.

مسلسل تلفزيوني جذب انتباهي على الشاشة الصغيرة خلال شهر رمضان لهذه السنة من حيث جودة إنتاجه وطريقة تطرقه للموضوع الذي اختاره.

عالم “الحرقة” (أو الهجرة غير النظامية باللهجات المغاربية) حيث تحترق أحلام الشباب فيركبون عباب البحر إلى إيطاليا، هو موضوع المسلسل التلفزيوني الذي أنتجته وبثته التلفزة الوطنية التونسية بمناسبة شهر رمضان.

منذ حلقاته الأولى تطرق هذا العمل التلفزيوني لمشكلة الهجرة غير النظامية، بشكل أكثر بلاغة من كل خطب السياسيين التونسيين حول جذور هذه المشكلة وملابساتها وجذورها العميقة: مجتمع أصبح جانب كبير منه ينظر إلى الخارج كمهرب من حياة ضاق أفقها وانعدمت فرص العمل والنجاح فيها.

من خلال أحداث المسلسل يبدو المهاجرون أناسا حقيقيين، حملتهم ظروف الحياة الصعبة عبر طرق مختلفة إلى قارب الهروب الجماعي. وبدوا بمشاعرهم وخيباتهم وأحلامهم المبنية للمجهول قصصا إنسانية ذات معان أكبر من الأرقام التي كثيرا ما تنقلها وسائل الإعلام في أخبارها عن المحاولات الفاشلة وضحاياها.. الذين تحصى أعدادهم ولكن تجهل هوياتهم.

تجتمع في ذات القارب المرأة العزباء الحامل التي تحاول الفرار من ظلم الناس وإنقاذ الجنين الذي في بطنها من بيئة لا ترحم، مع الشاب العامل في ورشة إصلاح السيارات والذي تشجعه أمه على الهجرة غير الشرعية عساه يتخلص من الفقر ولكنها تبكي فراقه عندما يقرر الرحيل، والكهل الكفيف التي لم يعد ينتظر أي شيء من أحد.. بورتريهات إنسانية واجتماعية يجمع بينها البحث عن الأفضل وراء البحر ولو دون جواز سفر أو حتى ضمان في الوصول حيّا إلى الضفة الأخرى.

قدم الإنتاج دون حرج عالم شبكات التهريب والاستغلال الإجرامي لظاهرة الهجرة بحلقاتها المتشابكة انطلاقا من ميناء جرجيس، حيث يسرد القصة اليومية لمصالح الأمن وهي تواجه ليس فقط كبار وصغار المهربين، بل أيضا المتواطئون معهم من بين صفوفهم هم أيضا. عالم رمادي في أخلاقياته وإن كان مفعما بالألوان والصور المبهرة للمخرج لسعد الوسلاتي.

يقول تقديم المسلسل على منصة “ارتفاي” للأعمال السينمائية والتلفزيونية التونسية على الإنترنت إن “مسلسل ‘حرقة’ يتناول قضية الهجرة السرية من منطلقات مغايرة للمضامين السائدة”. وهذا إلى حد بعيد صحيح.

فقد نجح المسلسل في رسم صورة للهجرة غير القانونية وملابساتها من منطلق تونسي هو أيضا منطلق أهل جنوب البحر الأبيض المتوسط عامة، إذ يقدم منظور الهاربين بجلودهم وليس وجهة نظر الغرب المرتعدة فرائصه من المهاجرين السمر والسود القادمين دون تأشيرة.

نجح المسلسل من خلال سيناريو وحوار واقعيين في جعل المتفرج يحس بما يحسه المهاجر، سواء عندما يكون في بلاده يتصارع مع الفقر والبطالة أو عندما يجد نفسه بين براثن المهرّب الجشع أو تحت رحمة الموج الأزرق على مسافة قصيرة من الموت غرقا أو لمّا تباغته الجنة الموعودة بأتعابها.

صوّر الإنتاج الهجرة ميدانا تنتفي فيه الأعراق ويجد التونسي - العربي نفسه يواجه نفس مصير الأفريقي القادم من جنوب الصحراء، ميدان تضمحل فيه الفروقات بين الجنسين إذ تتشابه الدوافع التي تجبر الشاب والفتاة على ركوب الخطر. دون أن تصرح بذلك في خطاب مباشر، ترفض شخصيات المسلسل وأحداثه التصنيفات والأفكار المسبقة ذات الجذور العنصرية، وتظهر أنه لا مكان لها أمام القاسم المشترك الذي يجمع المهاجرين والمهاجرات في رفضهم البؤس أينما كان منشأهم.

علاقة غريبة يربطها المسلسل بالمتفرج التونسي في شهر رمضان. وهو يطرح عليه سؤالا غير متوقع: هل للدراما الواقعية المرتبطة بآلام الناس مكان في الأجواء الاحتفالية التقليدية لشهر رمضان؟

صحيح أن البعض وجد المسلسل مبعثا للإرهاق النفسي الشديد في وقت كان يودّ فيه الهروب من خلال شاشة التلفزيون بعيدا عن واقعه المتعب أصلا.. في رحلة ترفيهية عبر الخيال، لكنه وجد نفسه عوض ذلك في قلب الظروف المؤلمة لشرائح واسعة من الناس يعايشهم كل يوم دون أن يعرف حقيقة معاناتهم.

حسب ردود الفعل المسجلة لدى الشارع يبدو أن أغلبية المشاهدين رحبت بمتابعة مسلسل يسلط الأضواء بحس فني رهيف على أحد تفرعات الأزمة التي تعيشها البلاد ويعيشونها هم بكل تأكيد، بعد أن أصبح شهر رمضان كغيره من شهور السنة والمواسم الدينية مناسبة يتقاسم فيها التونسيون مشاعر الخوف والحيرة، التي فاقمتها الجائحة بضغوط العزل الصحي في البيوت.

هناك بكل تأكيد جمهور لسائر الإنتاجات الكوميدية والعاطفية والدينية التي تؤثث البرامج التلفزيونية والتي يفطر عليها الصائمون في رمضان.

ولكن رمضان 2021 استثنائي، حيث ينام فيه المواطن ويستيقظ والانشغال يمتلك أعصابه إزاء احتمال زيادة تدهور الأوضاع حوله بشكل يهدد شغله ومصدر قوته ويضع على المحك صحته وصحة أبنائه، ويعج ذهنه بتساؤلات كثيرة تبحث عن إجابات.

لم يعد المتفرج على التلفزيون أو المبحر عبر الإنترنت يبحث دائما عن الراحة والتسلية اللتين يفتقدهما في حياته اليومية، بقدر ما هو يبحث عن بعض الإجابات الضائعة.

ومن قال إن المنتج التلفزيوني والمواطن العادي يستطيعان أن يأخذا إجازة من شواغل مجتمعهما لما يحلّ شهر رمضان؟

قد تكون الإجابات أو بعضها في عمل فني تبثه محطة تلفزيونية لا تبحث عن الربح، بعدما فشل السياسيون في تقديمها للشباب الهارب إلى “الحرقة”.