حنين فضل تكتب لـ(اليوم الثامن):

مشاريع الطاقة الشمسية في اليمن.. استثمار إماراتي في الاستقرار والتنمية المستدامة

 منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، ظلّ قطاع الكهرباء عنواناً لمعاناة مستمرة ومعضلة يومية أثقلت كاهل المواطن والدولة على حد سواء. فمنذ سنوات، يعيش اليمنيون في معظم المدن تحت رحمة انقطاعات مزمنة للتيار الكهربائي، لا تقتصر آثارها على إظلام المنازل، بل تمتد إلى توقف المستشفيات عن تقديم الخدمات الحيوية إلا عبر المولدات، وتعطّل المدارس والمرافق العامة، وانكماش الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على الكهرباء كعنصر أساسي في الإنتاج والتشغيل. هذه الأزمة المزمنة جاءت نتيجة انهيار البنية التحتية، واعتماد الدولة بشكل شبه كامل على محطات تعمل بالديزل والمازوت، في وقت ارتفعت فيه كلفة الوقود المستورد، ما جعل توفير الكهرباء مهمة شبه مستحيلة لاقتصاد منهك ومحاصر.

وسط هذه الأزمة الخانقة، برز الدور الإماراتي بوصفه أحد أكثر التدخلات فاعلية في قطاع حيوي وحساس، إذ اختارت أبوظبي أن تضع بصمتها في ملف الطاقة ليس عبر حلول إسعافية مؤقتة، بل عبر مشاريع إستراتيجية كبرى في مجال الطاقة الشمسية، مستفيدة من وفرة السطوع الشمسي في اليمن، ومن الحاجة الملحّة لبناء قطاع كهربائي بديل ومستدام. هذه المشاريع التي انطلقت في عدن وشبوة والمخا تعكس رؤية إماراتية متقدمة تزاوج بين دعم الاستقرار الإنساني والاجتماعي وتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي في بلد يمر بمرحلة انتقالية معقدة.

افتتاح محطة شبوة للطاقة الشمسية بقدرة 53 ميغاواط لم يكن مجرد حدث تنموي محلي، بل إعلاناً عن مشروع استراتيجي طويل الأمد. المشروع الذي بدأ العمل فيه في مايو 2024 بتمويل إماراتي وتنفيذ شركات متخصصة تجاوزت نسبة إنجازه خمسة وثمانين في المئة، ومن المتوقع دخوله الخدمة في الربع الأخير من 2025. شبوة، المحافظة الغنية بالنفط والغاز، عاشت لعقود على مفارقة مؤلمة: موارد ضخمة من الطاقة، لكنها محرومة من كهرباء مستقرة. واليوم، يفتح المشروع الباب أمام تحول نوعي يربط بين الثروة الأحفورية والطاقات المتجددة، ويوفر استقراراً في الكهرباء يمكّن السكان من تحسين معيشتهم، ويخلق بيئة جاذبة للاستثمار الصناعي في قطاعات النفط والغاز والأنشطة المرتبطة بهما.

أما عدن، العاصمة المؤقتة وميناء البلاد الأبرز، فقد شهدت منتصف عام 2024 تدشين محطة للطاقة الشمسية بقدرة 120 ميغاواط، تعد الأكبر في تاريخ اليمن حتى اليوم. المحطة التي أُنشئت في منطقة بئر أحمد على مساحة مليون وستمئة ألف متر مربع وتضم أكثر من مئتي ألف لوح شمسي، لم تكن مجرد استجابة لحاجة خدمية، بل خطوة استراتيجية لإعادة تأهيل عدن كمركز إداري وسياسي واقتصادي. فمن دون كهرباء مستقرة، لا يمكن لأي حكومة أن تدير أعمالها، ولا لأي ميناء أن يحقق وظيفته الحيوية. ومع الخطط التوسعية التي تستهدف رفع القدرة الإجمالية إلى 650 ميغاواط على مراحل، تتحول عدن تدريجياً إلى نموذج لمدينة يمنية قادرة على تجاوز أزمة الانقطاع المزمن، وهو ما يمنحها وزناً إضافياً في معادلة الاستقرار الوطني.

وفي الساحل الغربي، عادت مدينة المخا إلى الواجهة ليس من خلال إرثها التاريخي في تجارة البن، بل عبر تحولها إلى مركز جديد للطاقة الشمسية. فقد دشنت الإمارات مشروعاً بقدرة 40 ميغاواط، امتداداً لمحطة سابقة بقدرة 15 ميغاواط شُغلت منذ عام 2023 وأسهمت في تزويد السكان بالكهرباء بأسعار مخفضة. المشروع الجديد يقام على مساحة تتجاوز مليون متر مربع ويضم أكثر من ثلاثة وستين ألف لوح شمسي، ما يجعله رافداً مهماً لتغطية الطلب المتزايد بفعل التوسع العمراني، ويعيد للمخا مكانتها كمركز اقتصادي استراتيجي على البحر الأحمر.

البعد الاجتماعي لهذه المشاريع يتجاوز بكثير تفاصيلها التقنية. فالكهرباء المستقرة تعني حياة أفضل لملايين اليمنيين. تعني أن المستشفيات لن تضطر إلى وقف عملياتها الحيوية بسبب نفاد الوقود من المولدات، وأن المدارس ستتمكن من استخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم، وأن الطلاب سيتمكنون من الدراسة في أجواء ملائمة. كما أن توفر الكهرباء يعزز المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يعتمد عليها آلاف اليمنيين لكسب أرزاقهم، بدءاً من ورش الخياطة والنجارة وحتى محلات بيع المواد الغذائية التي تحتاج إلى تبريد دائم.

من الناحية الاقتصادية، تمثل هذه المشاريع خطوة مهمة نحو تخفيف العبء المالي الهائل الذي يسببه استيراد الوقود. فقد كانت الحكومة اليمنية تنفق سنوياً مئات الملايين من الدولارات على شراء الوقود لتشغيل محطات الكهرباء، وهو ما شكل نزيفاً دائماً للعملة الصعبة وأحد أسباب التدهور المستمر لسعر الريال اليمني. مع دخول محطات الطاقة الشمسية حيز التشغيل، يمكن تقليص هذه الفاتورة تدريجياً، وتحويل الموارد المحدودة إلى مجالات أخرى كالصحة والتعليم وإعادة الإعمار. كما أن خفض الاعتماد على الوقود المستورد يساهم في تقليل الضغوط على السوق المحلية، ويمنح الاقتصاد اليمني فرصة لالتقاط أنفاسه في ظل أزمة معقدة.

إضافة إلى ذلك، فإن الطاقة الشمسية تتيح لليمن تقليص بصمته الكربونية والانخراط في مسار عالمي نحو الطاقة النظيفة. ورغم أن اليمن لا يعد من كبار الملوثين على المستوى العالمي، إلا أن تبني مشروعات الطاقة المتجددة يمنحه موقعاً متقدماً في أجندة التنمية المستدامة، ويعزز فرصه في الحصول على دعم دولي إضافي من المؤسسات المانحة التي تفضل تمويل المشاريع الخضراء.

لكن النجاح ليس مضموناً بالكامل. فالتحديات عديدة، تبدأ من الحاجة إلى صيانة دورية وكوادر محلية مؤهلة لإدارة هذه الأنظمة، مروراً بالمخاطر الأمنية التي قد تهدد المشاريع في بلد لا يزال يعيش انقسامات وصراعات مسلحة، وصولاً إلى الانقسامات السياسية التي قد تعرقل وضع إستراتيجية وطنية شاملة للطاقة. هذه التحديات تجعل من الضروري أن يكون هناك التزام طويل الأمد، ليس فقط من الإمارات كجهة داعمة، بل من السلطات المحلية والقوى المجتمعية في اليمن لضمان حماية هذه المشاريع وتحويلها إلى ركيزة حقيقية للاستقرار.

من زاوية سياسية، تؤكد هذه المشاريع أن الإمارات تنظر إلى اليمن باعتباره مجالاً استراتيجياً لا يمكن فصله عن أمنها القومي ومصالحها الإقليمية. فالكهرباء ليست خدمة محايدة، بل أداة نفوذ قادرة على ترسيخ الحضور وتعزيز التحالفات. عبر مشاريع الطاقة، ترسل أبوظبي رسالة مفادها أنها شريك جاد في إعادة بناء اليمن، وأنها لا تكتفي بالتدخل العسكري أو السياسي، بل تستثمر في البنية التحتية التي تمس حياة الناس بشكل مباشر. هذا البعد يجعل من مشاريع الطاقة المدعومة إماراتياً جزءاً من شبكة أوسع من التحركات التي تشمل الموانئ والطرق والمطارات، وتشكل في مجموعها إستراتيجية متكاملة للنفوذ الإقليمي.

اليمن اليوم يقف أمام مفترق طرق. فإذا ما نجحت هذه المشاريع في الاستمرار والتوسع، فإنها قد تؤسس لمرحلة جديدة ينتقل فيها قطاع الكهرباء من الاعتماد على الوقود المكلف والمتقلب إلى منظومة أكثر استدامة ونظافة. أما إذا عجزت الأطراف السياسية عن حماية هذه الإنجازات، فقد تتحول إلى مبادرات متفرقة سرعان ما تتعطل أو تتعرض للتخريب.

إن مشاريع الطاقة الكهربائية المدعومة إماراتياً ليست مجرد محطات لإنتاج الكهرباء، بل هي اختبارات لإرادة اليمنيين في بناء مستقبل مختلف. فالمسألة تتعلق بقدرة الدولة والمجتمع على حماية ما تحقق، وتطويره، وتحويله إلى ركيزة للتنمية والاستقرار. وفي بلد أنهكته الحرب والانقسام، قد تكون الطاقة الشمسية أكثر من مجرد تقنية بديلة، إنها وعدٌ بمرحلة جديدة يمكن أن تنير درب اليمن نحو غد أقل ظلاماً وأكثر أملاً.