العشائر تُعيد هندسة القوة في غزة..

الانقسام الفلسطيني يتشظى.. ميليشيات محلية تنازع حماس على السلطة

من بين ركام البيوت والأنقاض، ظهرت جماعات مسلحة محلية – بعضها عشائري وبعضها منشقّ عن فصائل تقليدية – لتعلن عن نفسها كقوى أمر واقع جديدة في القطاع. هذه التشكيلات، التي تتراوح بين مجموعات صغيرة وأخرى منظمة، ترفع شعارات "الحماية" و"الكرامة"، لكنها في الواقع تعبّر عن حالة تآكل في سلطة حماس، وتراجع قدرة الحركة على ضبط المشهد الميداني والسياسي.

من رحم الفوضى وركام الحرب.. يولد “جيش غزة الشعبي”

غزة

في ظلّ الانهيار الأمني والاجتماعي المتفاقم داخل قطاع غزة بعد الحرب الأخيرة، برزت على السطح تشكيلات مسلحة جديدة، خارجة عن سيطرة حركة حماس، تتخذ من العصبية القبلية والعشائرية ركيزةً لتجنيد أتباعها، وتقدّم نفسها كقوى "حماية ذاتية" أو "قوات محلية" في مواجهة ما تصفه بـ"بطش حماس".
هذا التحوّل يعيد إنتاج ظاهرة "السلطات الموازية"، ويكشف عن أزمة بنيوية في مشروع حكم حماس، الذي بات يواجه تحديات من داخل المجتمع الغزّي نفسه.

منذ سيطرة حركة حماس على القطاع عام 2007، واجهت مقاومة مسلحة من بعض العشائر والعائلات الكبرى التي رفضت احتكار القوة، أبرزها عشيرة دغمش في مدينة غزة، وقبيلة الترابين في رفح جنوب القطاع.
ومع توالي الحروب والانقسامات السياسية بين حركتي فتح وحماس، نشأت بيئة حاضنة للانقسام الأهلي، حيث تحوّلت بعض العائلات إلى مراكز قوة، تمتلك السلاح وتفرض نفوذها المحلي في ظل ضعف السلطة المركزية.

تُعد عشيرة دغمش من أقوى العشائر الفلسطينية في غزة، ويقدَّر عدد أفرادها داخل القطاع بنحو ثلاثة آلاف شخص.
تاريخياً، كان للعشيرة تداخل سياسي واسع؛ إذ انتمى بعض أفرادها لفتح وآخرون لحماس والجبهة الشعبية. لكنّ العلاقة بين العائلة وحماس تدهورت منذ عام 2007 بعد سلسلة من الاشتباكات في أحياء الصبرة وتل الهوى.
بلغ التوتر ذروته في أكتوبر 2025 حين نفذت حماس إعدامات ميدانية بحق ثمانية من أفراد العائلة بتهمة "الخيانة والتعاون مع إسرائيل".
هذه الواقعة، التي وثّقتها وسائل إعلام محلية ودولية، أثارت استنكاراً واسعاً واعتُبرت – وفق محللين – "نسخة محلية من ممارسات داعش" في تصفية الخصوم.
وقال اللواء أنور رجب الناطق باسم قوى الأمن الفلسطيني إن "حماس تمارس سياسة الترهيب لفرض هيمنتها، وتضرب العائلات الكبرى في غزة لمنع أي تمرد محتمل ضد سلطتها".

في رفح، جنوب القطاع، يقود ياسر أبو شباب مجموعة مسلحة تُعرف بـ"القوات الشعبية"، تدّعي الدفاع عن المدنيين وتنظيم توزيع المساعدات الإنسانية.
ورغم أن أبو شباب كان معتقلاً سابقاً لدى حماس، فإن تقارير إسرائيلية – أبرزها في صحيفة تايمز أوف إسرائيل – كشفت عن دعم إسرائيلي غير مباشر لمجموعته، بزعم محاربة نفوذ حماس.
وأثارت تلك التقارير جدلاً واسعاً بعدما قال أفيغدور ليبرمان إن الحكومة الإسرائيلية "نقلت أسلحة لعائلة أبو شباب" بقرار من نتنياهو.
بدورها، نفت قبيلة الترابين علاقتها بأبو شباب، مؤكدة أنه "يمثل نفسه فقط"، في إشارة إلى العزلة الاجتماعية التي باتت تحيط به.

برز اسم حسام الأسطل، الضابط السابق في الجهاز الوقائي الفلسطيني، كأحد قادة الجماعات الجديدة في جنوب غزة.
أنشأ الأسطل تشكيلًا مسلحًا باسم "القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب"، يزعم أنه بديل لحماس، ويتمركز في قرية قيزان النجار بخان يونس.
في مقابلة مع قناة سكاي نيوز البريطانية بتاريخ 25 أكتوبر 2025، قال الأسطل إن مجموعته "تسعى لتأسيس غزة الجديدة، بالتعاون مع جماعات أخرى مثل أبو شباب ورامي حلس وأشرف المنسي"، مؤكدًا نيتهم "الاتحاد تحت مظلة واحدة".
ورغم صِغر حجم المجموعة – نحو 40 مقاتلًا فقط – إلا أن رمزية ظهورها تعبّر عن تحوّل نوعي في معارضة حماس المسلحة داخل القطاع.

تُعد مجموعة أشرف المنسي من أحدث التشكيلات، إذ أُعلن عنها في سبتمبر 2025 تحت مسمى "الجيش الشعبي".
يتألف قوامها من نحو 20 عنصرًا متمركزين في شمال غزة.
ظهر المنسي في تسجيل مصور محذرًا حماس من "الاقتراب من مناطق سيطرتنا"، واصفًا إعلام الحركة بـ"الإرهابي".
هذه اللغة الحادة تعكس تحولاً في الخطاب المحلي داخل غزة، حيث لم يعد الخلاف مع حماس سياسيًا فقط، بل انتقل إلى مستوى "الاقتتال الداخلي" على النفوذ.

في حي الشجاعية، شرق غزة، تبرز مجموعة رامي حلس، التي يعتقد أنها تضم عناصر سابقة من جهاز أمن الرئاسة التابع للسلطة الفلسطينية.
ذكرت تقارير إسرائيلية أن المجموعة تتعاون مع الجيش الإسرائيلي في "ضبط الأمن" شرق المدينة، لكن اللواء أنور رجب نفى ذلك قائلًا: "الأجهزة الأمنية الفلسطينية لا علاقة لها بأي تشكيلات مسلحة، وهدفها منع الانزلاق إلى اقتتال داخلي يفاقم معاناة السكان".
آخر التقارير تشير إلى اشتباكات مباشرة بين عناصر حلس وكتائب القسام، وسط أنباء عن فقدان الاتصال بحلس منذ أواخر أكتوبر 2025.

يرى مراقبون أن تصاعد هذه الجماعات يعكس تآكل شرعية حماس في غزة بعد الحرب، وانهيار منظومة الأمن الداخلي التي كانت تمسك بها الحركة عبر جهاز "الأمن الداخلي" و"كتائب القسام".
ويرى الباحث عريب الرنتاوي أن ما يجري هو "تفكك تدريجي لبنية السيطرة الحمساوية"، محذّرًا من أن غزة تتجه إلى نموذج الصوملة: تعدد الميليشيات، وتراجع سلطة المركز، وبروز أمراء الحرب المحليين.
أما على المستوى الإقليمي، فيُرجّح أن إسرائيل والولايات المتحدة ستتعاملان مع هذه التشكيلات كـ"بدائل ناعمة" لحماس في مرحلة ما بعد الحرب، رغم المخاوف من تحوّلها إلى كيانات خارجة عن السيطرة مستقبلاً.

سيناريو التهدئة القسرية: تواصل حماس القبضة الحديدية عبر حملات تصفية واعتقال، ما يحدّ مؤقتاً من تمدد الجماعات المعارضة.

سيناريو الانفجار الداخلي: تتوسع المواجهات الأهلية لتتحول إلى صراع مفتوح بين حماس والعشائر المسلحة، خصوصاً في مناطق رفح وخان يونس.

سيناريو التدخل الخارجي: تستثمر إسرائيل وبعض القوى الغربية في هذه الجماعات ضمن خطة "غزة ما بعد حماس"، لتفكيك حكم الحركة عبر الفوضى المنظمة.

إن بروز هذه الجماعات المسلحة ذات الطابع القبلي والعشائري في غزة، يكرّس واقعاً جديداً من تفكك السلطة المركزية وعودة المجتمع إلى الولاءات الأهلية ما قبل الدولة.
ومهما حاولت حماس إعادة فرض سيطرتها بالقوة، فإن الحرب الأخيرة كشفت حدود نفوذها، وأطلقت ديناميات جديدة داخل القطاع قد تفضي إلى تحول جذري في خريطة القوى الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة.