رولا القط تكتب لـ(اليوم الثامن):
الانتصار كذبة مقدّسة.. كيف تسوّق الميليشيات الهزيمة كملحمة؟
في المدن العراقية، وبين الأزقة التي تعبت من الخوف والخراب، خرجت الميليشيات ترفع الأعلام الإيرانية وتوزّع الحلوى، محتفية بما وصفته بـ"انتصار إيران على إسرائيل" بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير. لم تسأل هذه الجماعات الناس عن رأيهم، ولم تراعِ الدم الذي لم يجف في غزة، ولا السخط الشعبي العارم الذي غلّى الشارع العراقي، خصوصًا في الجنوب، حيث بدأت مظاهر الاحتفال تُفرض كأنها واجب وطني.
لكن… أي انتصار هذا الذي يُسوّق؟
منذ متى كانت الهدنة نصرًا؟ ومنذ متى كان السكوت على المجازر بطولة؟
الإصرار على تحويل وقف إطلاق النار إلى لحظة "نصر إلهي" ليس مجرد تضليل سياسي، بل هو امتداد لعقيدة أيديولوجية تعيش وتتنفّس على صناعة النصر حتى لو لم يكن موجودًا. فالجماعات المسلحة، ومن ورائها إيران، لا تحتفل بالإنجازات بقدر ما تحتفل بالفكرة: فكرة أن البقاء انتصار، وأن الخسارة يمكن أن تُسوّق كـ"صبر استراتيجي".
لكن خلف هذه الاحتفالات، يكمن فهم خاص جدًا للانتصار.
فبالنسبة لإيران وأذرعها، الانتصار لا يُقاس بالألم أو الدم أو عدد الضحايا، بل بمدى الولاء للفكرة، واستمرارية حضورها في الوعي، حتى وإن كانت على حساب الواقع والمنطق. هذه ليست قراءة عسكرية أو سياسية للواقع، بل تأويل أيديولوجي يتعامل مع الأحداث كبراهين على "حق سماوي" مزعوم، لا كمعطيات قابلة للتقييم.
الميليشيات في العراق لا تمثل قوة وطنية، بل تشكّل واجهات عقائدية لأجندة خارجية.
هي ليست فقط أذرعًا مسلّحة، بل عقولًا مغلقة تعتنق أيديولوجيات صُنعت خصيصًا لشعوب مُنهكة. لا تؤمن بالإنسان، بل تؤمن بالرمز. والإنسان في خطابها وسيلة: قد يُقتل، يُستثمر، أو يُنسى، طالما أن "الفكرة" – أيًّا كانت – باقية.
أما الأيديولوجية التي تنطق باسمها، فليست نصًا مقدسًا ولا وحيًا منزّلًا، بل خليط من التأويلات والنظريات المهترئة، حيكت في غرف مغلقة، ثم زُرعت بالإكراه في عقول البسطاء والمقهورين.
في هذا الواقع المُحرّف، كل شيء قابل للتزوير:
الخسارة تتحول إلى انتصار.
النكسة تصبح صمودًا.
والموت يُقدّم كقربان لفكرة لا أحد يفهمها إلا هم.
أما الشعب، فقد تعب من أن يُزجّ باسمه في معارك لا تخصه.
تعب من أن يُستعمل كحطب لمواسم الأجندات.
الشعب يريد دولة لا ميليشيا، كرامة لا استعراض، حياة لا موتًا يُغلف بشعارات قديمة.
في العراق اليوم، لا يمكن فصل الاحتفالات التي ترعاها الميليشيات عن الاغتراب السياسي والأخلاقي الذي يعيشه المواطن.
فحين ترفع أعلام إيران في النجف وكربلاء والناصرية، لا يُرى فيها سوى صورة جديدة من صور الاحتلال الرمزي.
صورة تغضب الناس، لا تُسعدهم.
تستفز كرامتهم، لا تُشعرهم بالأمان.
هكذا تتحول الخرافة إلى حدث، والأسطورة إلى خبر عاجل.
وهكذا تموت الحقيقة… حين تُصفّق لها البنادق بدلًا من أن تحميها.