هاني مسهور يكتب:

دراما الموساد.. حين يسقط بيت العنكبوت الإيراني

لو كنا شاهدنا مسلسل التجسس الإسرائيلي “طهران” عشية اندلاع الحرب الأخيرة، لكنا ضحكنا من سذاجة السيناريو، وسخرنا من الصورة التي رسمها العمل عن إيران، وكأنها مستوطنة متقدمة للموساد، تدار بكاميرات صغيرة وأجهزة تنصت متصلة بتل أبيب، لا شيء في المسلسل كان يوحي بالواقعية، بل بدا، كما هو فعلا، إنتاجا إسرائيليا يرسم انتصارا استخباراتيا لا يُهزم، في دراما ركيكة الحبكة، مرتفعة النبرة، كتبت لتقول شيئا واحدا، نحن هناك، نعرف كل شيء، وسنضرب متى نشاء.

لكن بعد ما حدث في الأيام الأخيرة، تبدو السخرية غير ممكنة، أو على الأقل، بات على الضحك أن يتريث، لأن ما كنا نظنه تهويلا دراميا، بات أقرب إلى حقيقة مرعبة،  لا أحد كان يتصور أن يتم تحييد الصف الأول من القيادات العسكرية الإيرانية في ساعات، أو أن تُضرب منشآت حساسة داخل العمق الإيراني بلا رد حقيقي، أو أن يسود صمت أمني واسع المدى قبل أن تتجمع إيران للرد بصاروخ على بلدة عربية داخل إسرائيل، كأنما لتقول إنها أطلقت النار، لكنها لم تصب العدو.

إسرائيل لم تنتظر اعترافا، ولم تفرح كثيرا،  فقط ضربت، وذهبت، وتركت جدران العدو تتآكل وحدها، وكما قال نتنياهو “لا نحتاج أن ننتصر على إيران، يكفينا أن يشكّ شعبها في قدرتها على الانتصار”

الصدمة أكبر من الرد، هي صدمة الانكشاف، لقد عرفنا إيران لعقود بأنها صاحبة سياسة “حياكة السجاد”، تشتغل بهدوء على تفاصيل دقيقة، وتتقن الانتظار حتى تكتمل الحبكة السياسية والبرامج النووية ومدّ الهلال الشيعي ثم البدر الشيعي، دولة تتقن البقاء، وتؤمن بأن الوقت جزء من أدوات النصر، لكن ما رأيناه اليوم، وما نراه من اختراق استخباراتي عميق، يقول شيئا آخر تماما،  إيران، التي سوّقت نفسها بيتا محكما، هي أيضا بيت عنكبوت يتداعى سريعا، بل تنهار سرديتها بنفس السرعة التي انهارت بها أحزمة الأمان لدى حلفائها في المنطقة.

والمفارقة أن هذه الأنظمة التي لطالما قدّمت نفسها بوجه منيع ضد الاختراق، بُنيت في الواقع على منظومات مغلقة فكريا، لا تقبل المساءلة، وتختزل المواطن في أداة للتبجيل والانقياد، وقد أثبتت الوقائع أن أكثر المشاريع التي تتغنى بـ”الثبات العقائدي” هي في الواقع أشد عرضة للتصدع عند أول اختبار، لأن الجدران التي لا يدخلها الهواء، لا تصمد أمام العواصف.

لم تكن هذه القصة جديدة،  فقبيل إيران، رأينا حزب الله يخترق من الداخل، بعد سنوات طويلة من تأليه الانضباط العقائدي، وسقط نظام الأسد الذي طالما قدّم نفسه كقلعة صلبة أمام العدو، بينما باتت دمشق مفتوحة على الجبهات، والموساد في شوارعها أكثر من الخبز، وها هو الحوثي في اليمن يكرر نفس النموذج، يملأ الدنيا صراخا عن “السيادة” وهو يسلم الجبهات من الداخل، بينما الفصائل الشيعية العراقية، التي ورثت أحد أكبر الجيوش في العالم بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، تحولت إلى كتل أمنية تتنازع عليها أجهزة استخباراتية متعددة، في مشهدية فائضة بالسذاجة لا تنتمي إلى تاريخ العراق العسكري.

هذه الجماعات التي طالما سوّقت خطابا عقائديا عن “الأمانة” و”الولاء” و”الانتماء” و”الثبات على الخط”، كانت أكثر الجماعات قابلية للاختراق، وما كُشف في حزب الله من تسريبات وتجسس داخلي، يتكرر الآن في إيران بحجم أكبر وأعمق،  فهل يعقل أن يتحول خريجو “مدارس الإيمان” إلى جواسيس؟ هل تتبخر التربية العقائدية بمجرد ملامسة عرض استخباراتي مغر؟ هذه الخيانة ليست لحظة، بل منظومة، وهي تكشف عن خلل بنيوي في سرديات “الانتماء” كما يروّجها الإسلام السياسي الشيعي وحتى السنيّ سواء بصيغته السلفية أو الإخوانية فكل هؤلاء كانوا عرضة للاختراق وما أمر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ببعيد فكم من وشاية وقعت بين أمراء التنظيم من كابول مرورا بالمكلا ووصولا إلى دمشق.

قال صدام حسين ذات يوم “إيران لا تريد أرضك، بل تريد أن تسيطر على عقلك”، واليوم، يبدو أن عقل النظام الإيراني هو ما تم اختراقه أولا، الفشل لم يكن في إطلاق الصواريخ، بل في الاعتراف حتى بحدوث الضربة

حتى توماس فريدمان، الذي بدا متفرجا سعيدا، استند إلى المسلسل نفسه في تحليله لما يجري، كأنما أراد أن يقول لنا إن كل ما حدث كان مكتوبا منذ الموسم الأول، لكن الحقيقة أن الواقع تفوق على السيناريو، ففي ليلة واحدة، ضربت إسرائيل عمق إيران، من نطنز إلى أصفهان، وصولا إلى طهران نفسها، دون أن تطلق إيران رصاصة واحدة، أو تُشغّل دفاعاتها الجوية، لم تكن عملية عسكرية فقط، بل فضيحة إستراتيجية ونفسية، ومجزرة في سردية “الهيبة”.

ما سبق تلك الليلة كان خديعة كاملة، ازدحام مصطنع في الكنيست، زفاف ابن نتنياهو، تغريدات فوضوية من إيلون ماسك، وتصريحات مشوشة عن العلاقات مع واشنطن،  ظن الإيرانيون أن إسرائيل تعاني ارتباكا داخليا، فإذا بها تحيك أكبر عملية تفكيك للردع الإيراني منذ قيام الجمهورية الإسلامية، كان كل شيء يوحي بأن ضربة ستتلقاها إيران إلا إيران نفسها لم تستوعب أن شيئا ما يحاك ضدها.

قال صدام حسين ذات يوم “إيران لا تريد أرضك، بل تريد أن تسيطر على عقلك”، واليوم، يبدو أن عقل النظام الإيراني هو ما تم اختراقه أولا، الفشل لم يكن في إطلاق الصواريخ، بل في الاعتراف حتى بحدوث الضربة، كان بإمكان خامنئي أن يخاطب شعبه بخطاب يقنع أو يبرر أو يحشد، لكنه اختفى، فيما بدأ كبار قادته يتواصلون مع موسكو بحثا عن مخرج آمن يشبه مشهد بشار الأسد أواخر 2024.

فجأة، لم تعد العمامة حصنا، بل عبئا، من كان يهتف باسم الثورة بدأ يتساءل عن جدوى الدماء التي سالت، وعن نظام لم يحمِ عاصمته، لا المشهد النووي ردّ، ولا الحرس الثوري، ولا حتى شبكات الدفاع السيبراني التي لطالما افتخر بها النظام، والنتيجة سقوط سياسي مدوّ أمام الداخل والخارج، يوازي في رمزيته سقوط جدار برلين، ولكن بنسخة شيعية.

إيران اليوم ليست على حافة التغيير، بل في عمقه، وإن لم تبدأ المرحلة الانتقالية رسميا، فإنها بدأت فعليا في الوعي العام، وفي انكسار السرديات، وفي قلق الحلفاء، السؤال الآن لم يعد هل يسقط النظام؟ بل من يرثه؟ رضا بهلوي؟ قائد من داخل النظام؟ اتفاق دولي على رجل انتقال؟ كل شيء مطروح، لأن السقف انهار، واليوم الأخير حان..

أما إسرائيل، فهي لم تنتظر اعترافا، ولم تفرح كثيرا،  فقط ضربت، وذهبت، وتركت جدران العدو تتآكل وحدها، وكما قال نتنياهو “لا نحتاج أن ننتصر على إيران، يكفينا أن يشكّ شعبها في قدرتها على الانتصار.”