د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

أعشقك يا وطني لا ينتهي !!!

رغم الألم والجراح الراعفة التي تبكي الصخر هذه الأيام
أكاد لا أصدق ما يجري في وطني الجنوب من فتن وحروب أكلت الأخضر واليابس ولم أكن أتخيل في طفولتي أن وطني الذي عاش فيه أهله في سالف الزمان في رخاء ويسر في العيش وأمن وأمان واستقرار سينحدر إلى هذه الهاوية السحيقة من الثارات والدماء والقتال والصراع !!
لم تسقط القيم والشيم النبيلة ولا الأعراف ولا التقاليد في بلادنا الحبيبة رغم حملات القمع التي شنها رعاع الحكم الشمولي  عندما تآمروا على رجالها الشجعان وأهل العلم  والحكمة  والعقول النيرة وقضوا عليهم ظلما وعدوانا  بين ليلة وضحاها !!
كنا نسمع أن بلادنا في باطنها  ثروات هائلة من النفط والغاز لم تستخرج بعد ولكنه سيتدفق في المستقبل .. وبدلا من ذلك تبخرت أحلامنا ولم نحصد إلا الدماء والحروب والأحزان ولا زال الحبل على الجرار حتى اليوم ، وعندما تعود بي الذاكرة الى أيام الطفولة وأتذكرها ينحبس الدمع ويتحجر في عيوني وتتملكني الحسرة على وطني الجنوب الذي تتلاعب به القوى المتنفذة وتنهشه الضواري واليوم لم أتذكر من الماضي إلا الصور الجميلة التي عشتها في طفولتي وتستعيدها ذاكرتي كأطياف وأحلام ..أتذكرها لأواسي نفسي لعلها تبلسم جراحاتي وأستعيد شريط طفولتي عله يواسيني وأتذكر من تلك الفترة ما تجود به الذاكرة وأقول :
ينبت الأطفال في هذ الزمن الجميل على ثراك يا وطني كزهور البشام التي تنمو في القمم الشماء بكور العوالق وتزهر كالغزاب والرياحين والمشموم الأبيض الذي  يزين مداخل البيوت الطينية الجميلة التي تعلو شامخة وتصل في أقصاها إلى سبعة أدوار وتتوسط أعلاها النوبة المزخرفة بالنورة وتزينها الشرفات  على كامل سطوح المنزل وأنا واحد  من الأطفال المحظوظين  الذين   تفتحت أعينهم على تلك البيوت الجميلة والرائعة .. عشت على ثراك يا وطني وتعلق قلبي بترابك وجبالك الموشحة بالأشجار الخضراء التي تنمو في سفوحك ومنحدراتك التي تجري فيها جداول الماء بعد المطر ولا تسمع إلا خريرها وهي تنحدر وتقفز فوق الصخور وتتجه إلى الحقول لترويها !!  تنفست هواك العليل  ..تماما كزهرة البيبيش التي تنبت في الصخر وتبقى معلقة فيه حتى تزهر وتتفتح بألوانها الزاهية ومن الصعب الوصول اليها ، وبعد أن يخف المطر كنت  أخرج من بيتنا وتقودني  خطاي الصغيرة وأعبر الساقية فوق لوح خشبي  إلى الطرف الأخر ثم أسير بين الحقول وأطل على  وادي مربون الذي يهدر فيه السيل من العصر ويستمر في تدفقه وترتفع وتيرته في منتصف الليل حتى غبش الصبح ثم تتراجع  قوته واندفاعه وفي  الضحى يكاد يتلاشى بعد ان حمل الطمي والخير للمزارع والحقول  ثم  أنزل الى الوادي العب مع رفاقي  في أطرافه  بعد تراجع تدفق السيل ثم نسبح في تياره الخفيف  ويحملنا تارة  أخرى  ..نمرح ونتسابق وإذا انقطع  السيل تظهر السيلة  الحمراء كقطعة سجاد بديعة الألوان  ونقفز من صاع الحامورة الى الوادي  كنا مجموعة من  الأطفال من الصغار الذين عشقوا ثراك.. ومن أترابي د. حسن أبوبكر العولقي ود. صالح منصور والعديد من الأطفال ممن كانوا في سننا آنذاك    نسابق الفراشات الملونة على أطراف السواقي وفي الحقول المثمرة وفي فصل الشتاء في موسم القمح والحصاد  كنا نلاحق الطيور الصفراء والخضراء والزرقاء والبيضاء  وكل الطيور المهاجرة الجميلة التي تحط رحالها في الوادي.. بعد رحلة طويلة عبر القارات والبحار التي تسمى ب "العول" نراها وهي تحلق في السماء أسرابا بيضاء اللون   ثم تهبط تدريجيا  وتتعلق بأغصان العلوب وتتأرجح معها .. ثم تنتشر في" الأوصار" أو كما تعرف في بلاد الشام بالبيادر التي تجمع فيها محاصيل المزارع  ..تلتقط حبوب القمح .. .. وفي الصيف تتمدد ألوان الطبيعة الخضراء من حولي أشم رائحة حماط الدخن وذنين السدر بزهوره البيضاء الصغيرة ذات الرائحة العطرية .. وأسمع دوي النحل وهو يجني منها ويبني خلايا الشمع ويسكب الرحيق والعسل فيها .. ولا يكاد يخلو بيت في وادي يشبم من جبوح  النوب (خلايا النحل )...أشم رائحة السيل وشذى أشجار الجبال التي تطوق مدينتي الجميلة (الصعيد) في وادي يشبم ... أتسابق مع رفاق الصبا طلوعآ ونزولا إلى راحة البئر ..عندما نشاهد الحسناوات يسحبن الماء بالدلو وهن يرددن أهازيج جميلة  ثم  يملأن الغروب ...نتسابق من قاع الوادي إلى الأعلى لكي نشرب من أياديهن  الناعمة  المطلية بالهرد والحناء ...ونعود وأنفاسنا معطرة بصناعة الجمال والطيب الذي يفوح من أعطافهن ...ذكريات جميلة عشناها ..وقلوب خالية صافية نقية وبريئة  خالية من الشوائب لا تتجاوز الأعراف والتقاليد وتحترم الدين كنا نعيش كأسرة واحدة متحابة ومترابطة  ...كنا في سن الطفولة  نرى كل شيء بالألوان الطبيعية الخلابة ...كان ذلك عنوان الحياة في زمن كان عشق الوطن هو كل شيء.. نختزل فيه كل معاني الجمال والبساطة والعفوية وحسن الظن والنية والسلوك والبراءة !!
د. علوي عمر بن فريد