كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):

استرضاء من أُرغم على تجرع السم

لندن

“سمعت جُمل الرفض أكثر من أي فقرة أخرى أثناء التفاوض مع الجانب الإيراني، أخي أبو زياد نحن هنا لحلحلة الأمور وليس لمزيد من التعقيد”. توجه الأمير بندر بن سلطان السفير السعودي في الولايات المتحدة الى نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية العراقي طارق عزيز بهذا الكلام، بعد فترة استراحة قصيرة أثناء مفاوضات جنيف مع وزير الخارجية الإيراني علي أكبر ولايتي عام 1988 بعد توقف القتال بين العراق وإيران واضطرار الخميني إلى الاعتراف بتجرعه السم.
كان الأمير بندر من بين المراقبين الذين حضروا المفاوضات، ولم يُعلن عن مشاركته آنذاك. رد طارق عزيز، بأنه هنا يتفاوض ولديه ثوابت يبني كلامه عليها مع الوفد الإيراني.
اقترح الأمير بندر وقتها أن يشارك في الاتصال الهاتفي أثناء فترة الاستراحة بين طارق عزيز والرئيس صدام حسين. وعبر حينها أثناء الحديث مع الرئيس صدام عن الحاجة الدبلوماسية للمساعدة في فك العقد وليس المزيد من القوة لشدها.
كان الأمير بندر يروي هذه الواقعة عام 1997 خلال لقاء جمعه مع صحفي عراقي في ليبيا، أثناء قيامه آنذاك بدور الوسيط لأنهاء الحصار الأمريكي على ليبيا بعد حادثة لوكربي.
مهما يكن من أمر النتيجة التي آلت إليها مفاوضات عزيز مع ولايتي في جنيف، فإن القصة على لسان الأمير بندر بن سلطان، تقدم لنا درسًا ملهمًا في العمل السياسي عندما تكون إيران طرفا فيه، للبناء عليها بعد الاتفاق الأولي السعودي الإيراني في بكين بين أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني ومستشار الأمن الوطني السعودي، مساعد بن محمد العيبان.
يكمن الدرس في تلك القصة أن التفاوض مع إيران عندما يتحول إلى استرضاء كما يحدث اليوم، لا يمكن أن يعد تفاوضًا، بينما استراتيجية الهيمنة الإيرانية في حُكم العواصم العربية قائمة ومستمرة ومتصاعدة. في وقت يقدم لنا البعض قراءة فارغة للتاريخ عندما يزعم أن خامنئي نفذ صبره حيال الولايات المتحدة لذلك لاذ بالسعودية، كما نقلت وكالة رويترز عن مسؤول إيراني. وهذا تبسيط يهمل عن عمد الاستراتيجية التي قام عليها النظام في إيران.
ومع أننا لا نتوقع أن السعودية تعمل لاستعادة “عراق” جديد كما كان يقف بوجه الهيمنة الإيرانية، إلا إننا أيضًا لا نشك أن السعودية تفهم بعمق استراتيجية الهيمنة الإيرانية على المنطقة، بيد أنها أصبحت الأقرب إلى الامتداد الإيراني بعد أن أسهمت مع العرب بتسهيل المهمة على الولايات المتحدة وتسليم العراق إلى إيران على طبق من فضة “التعبير ليست لي، بل للأمير سعود الفيصل”! ذلك أن قدر الجغرافيا السياسية يضع السعودية منذ سنوات، أو على الأقل كما يتوق العرب إلى ذلك، يضعها بوجه إيران. وهو أمر يحمّلها مسؤولية الإجابة بوضوح عن أسئلة بدأت تتصاعد في الشارع العربي بعد اتفاق بكين. بل أن مساعد بن محمد العيبان خريج مدرسة المخابرات السعودية منذ تأسيس والده هذا الجهاز، لا يمكن إلا أن يضع حشد من الأسئلة المكلفة الإجابات أمامه وهو يصافح شمخاني في بكين.
حتى الأمير تركي الفيصل الذي كان الصوت الذي تعول عليه وسائل الاعلام بكونه المعبر بوضوح عن المزاج السياسي في بلاده، وهو خارج التزام الموقع الرسمي الذي يتطلب الحذر الدبلوماسي، بدأ يتناغم مع الإجابات المكررة غير المفيدة. فيما يغيب الكلام الأكثر طلبًا الذي كان يتميز به خلال السنوات الماضية.
علينا أن نعود هنا إلى تحذيراته السابقة من “صدمة” الخطر الإيراني على المنطقة بعد تهاون إدارة الرئيس جو بايدن مع سياسة طهران التوسعية.
لم يتردد حينها الأمير تركي وهو يتحدث عن أكثر من إعادة الثقة لما اسماه التحالف الاستراتيجي بين بلاده والولايات المتحدة إزاء الخطر الإيراني، الى الارتباك الاستراتيجي الدولي الناجم عن سلوك وسياسات ونفاق القوى العظمى على رأس النظام الدولي الذي يُفترض أنه قائم على القواعد.
فما الذي تغير في إيران على الأقل وليس لدى السعودية، كي تتحول المعادلة بعدها في اتفاق بكين إلى استرضاء؟
كل المؤشرات تقول لنا لا شيء، وأن كبار المسؤولين الأمنيين السعوديين بما فيهم العيبان الذي وقع الاتفاق، لا يثقون بطهران، وأن استراتيجية قم أم القرى مازالت قائمة في مركز القرار السياسي والاستخباراتي الإيراني، عندما تعمل من أجل نقل مركز العالم الإسلامي من مكة إلى قم.
حيال ذلك هل تملك الرياض إجابات واضحة بشأن الخنجر الحوثي الذي زرعته إيران في الخاصرة السعودية؟ وهل يعني القبول بالحوثيين كميليشيا مهيمنة على مستقبل القرار اليمني، بافتراض حدوث الاتفاق داخل اليمن، سيجعل منهم حزب الله جديد يمني بلباس إيراني؟ استخدم مسؤول إيراني تعبير أن طهران ستستخدم نفوذها في اليمن لمساعدة السعودية على تحقيق الأمن. تأملْ مفردة “نفوذها” هي تبسيط مخادع لكلمة هيمنتها!
ماذا بشأن العقل القبوري المستحوذ على خطاب الميليشيات في العراق، وهي تترقب إشارة الانتقام من “آل سعود” التي لا تغيب عن خطابها بوصفهم “جيش يزيد”؟
هل تستطيع الرياض أن تنفي أن خلية حزب الله بإدارة إيرانية التي اكتشفت في الكويت ومازالت تداعياتها مستمرة أمام القضاء، بيد أن السلطات الكويتية منعت أي تناول إعلامي لها، لا يوجد ما يعادلها في المنطقة الشرقية السعودية والبحرين؟
في الكلام المستمر منذ أيام والذي يقدم إيران بوصفها رسول سلام مقبل على الخليج العربي ومنصاع لمصلحة الشعوب في التنمية الاقتصادية، لا يملك الإجابات على هذه الأسئلة، ويكتفي بمجرد تزيين الأقوال.
ومع إنه لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى سيذهب التقارب بين السعودية وإيران بالفعل. فأن التسابق على تقديم علي شمخاني بوصفه رجل سلام إيران في الخليج العربي لا يمت بصلة للصبر الاستراتيجي، ولا يعبر في الوقت نفسه عن السذاجة السياسية.
فتح السفارات في الرياض وطهران لا يعبر عن أي شيء حصل بالفعل أو سيحصل، بينما تغيب “الدروس المستفادة” من كل الذي قامت به إيران على مدار أكثر من عقدين في التمدد ومحاصرة السعودية بوصفها الهدف الأثمن في استراتيجيتها.
واليوم تبدو عبارة عن طي صفحة الخلاف مع إيران أكثر إرهاقا للسياسيين السعوديين من الإعلاميين وهم يدافعون عنها، فمفردة “الخلاف” بين إيران والسعودية تصل متأخرة وغير جدير بالوفاء إن لم تحدث ضررًا. أنها بالنسبة لاستراتيجية قم أم القرى، ليس خلافًا على الإطلاق، أو طريقا سالكا بين البلدين بحاجة إلى ترميم لإعادة فتحه، بل صراع وجود مع السعودية، ولا يطوى بفتح أبواب السفارات في الرياض وطهران.