هيثم الزبيدي يكتب:

قطر تتقن فن الهجوم.. عليها أن تتعلم فن الصبر

يتزامن مونديال قطر مع حالة تعكّر للمزاج تجتاح العالم. لم يتعاف العالم من آثار كوفيد، ويعيش اليوم حياة قلقة بفقرائه وأغنيائه على حد سواء. حرب أوكرانيا كشفت الكثير. العولمة الاقتصادية نهضت بالتجارة والصناعة بشكل غير مسبوق، لكن خلقت مواطن خلل وتباينا كبيرا. الغرب فوجئ بمدى اعتماده على مصادر الطاقة من خارج حدوده، من نفط وغاز، وبوهم البدائل من طاقة متجددة. وبقية العالم فوجئت بمدى إدمانها على القمح والذرة والزيت القادم من روسيا وأوكرانيا. كان العالم أكثر من مستعد لتفريغ تعكر المزاج هذا بقضية ترتبط بمشهد من مشاهد التباينات الصارخة. هذه المرة كانت حصة قطر.

مباريات المونديال تجري الآن. من العبث إذا الحديث عن كيف حصلت قطر على حق استضافة أهم حدث رياضي في العالم. وضع المثليين في قطر ليس سرّا عسكريا والجميع يعرف حساسية الموضوع، مهما حاولت ماكنة الدعاية القطرية التغطية على الأمر أو تبسيطه. السكوت في غيرها من الدول العربية والإسلامية على الأمر لا يعني تقبله. الفرق أن الأضواء الآن على قطر.

نفس الشيء يمكن أن يقال عن حقوق العمال في قطر. توفي الكثير من العمال الآسيويين والأفارقة أثناء تشييد الملاعب ومنشآت الاستضافة، وضاع الكثير من الحقوق لآخرين تعاملت معهم شركات المقاولات، القطرية والغربية، بامتهان معيب. لكن هذا الأمر لا هو محصور بمنشآت المونديال ولا في قطر فقط. مسألة حقوق العاملين الوافدين قضية مطروحة في المنطقة منذ عقود. ثمة تحسن ملموس، لكن لا تزال الظروف بعيدة عن المثالية.

الخليجيون متهمون بانتهاك حقوق العمال الآسيويين والأفارقة. نسمع اليوم دفاعات مستميتة من عرب وغربيين عن دول الخليج، بأن الأمر لا يبلغ هذا السوء. أسباب الدفاع مفهومة، لأن لا هؤلاء العرب ولا الغربيين هم من يعمل تحت أشعة الشمس الحارقة. هذا نوع من التواطؤ النفسي في قضية أكثر من معروفة.

للحق، يمكن أن نجد تنبيهات مبكرة جدا عن احتمالات الانتهاكات لحقوق العمال. الباحث نيكولاس مكغيهن الذي كان يدير منظمة هيومن رايتس ووتش في الخليج، كتب مقالا في 6 ديسمبر 2010 في صحيفة الغارديان بعنوان “لا تدعو مونديال قطر 2022 يبنى على القسوة”، نبّه فيه من خطورة انتهاك حقوق العمال الوافدين. المنظمة صاحبة أجندات سياسية بالتأكيد، ولكن من الصعب مجادلتها، أو مجادلة غيرها بالحديث عن “عنصريتها” أو “عنصرية” الغرب كما حاول وزير العمل القطري أن يفعل.

عندما يكون مزاج العالم متعكرا، تصير التباينات أكثر وضوحا وأقرب للتشخيص. قطر أكثر من غيرها تعرف هذا الأمر. عندما كان مزاج العالم العربي متعكرا من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، كانت ممن ركبوا الموجة عام 2010 التي أوصلتنا إلى “الربيع العربي”. أدوات الدعاية المختلفة وفي مقدمتها قناة الجزيرة، وأدوات السياسة وفي مقدمهم الإخوان، وأداة المال لتمويل الاحتجاجات ثم التمرد والحروب الأهلية، كانت “سياسة” قطرية بلا محاولة للتلطيف أو الرتوش. وكما لم تهضم معدة العالم العربي مشاهد التباينات في واقع المنطقة واشتعلت الثورات وحركات التمرد، فإن معدة العالم لم تهضم حقيقة إنفاق 200 مليار دولار على البنية التحتية لمونديال قطر على حساب حقوق أساسية للعاملين. حقوق أساسية تصل إلى حد دفع الأجور، دع عنك ظروف العمل ومراعاة قيظ الصيف.

ربما استهانت قطر بحجم الحملة العالمية التي ستواجهها مع انطلاقة المونديال. لكنها بلا شك استعدت مبكرا لمنع حملة إقليمية تشنّ عليها، انتقاما من مواقفها السياسية من دول المقاطعة. بالقياس للحملة الغربية عليها، علينا أن نتخيّل لو لم تحدث مصالحة قمة العلا. الجو الخليجي الآن هادئ وحصلت قطر على كل الدعم من جيرانها. قمة العلا كانت “ضربة معلم” بأن أبطلت مفعول حقل ألغام إعلامي وسياسي كان سيطوق قطر أثناء المونديال.

قطر التي اعتادت على شن الحملات الإعلامية والسياسية تبدو فاقدة لأعصابها هذه المرة أمام حملة التشهير التي تواجهها. ربما لم تكن تتخيل أن تكون الحملة بهذه الشراسة، خصوصا أن دول المقاطعة الخليجية لم تعد تستثمر في الحرب الإعلامية عليها. لم يتخيل أحد أن يصل الأمر بتسريبات قطرية عن إعادة النظر في استثمارات الصناديق السيادية القطرية في مدينة مثل لندن، بعد أن قرر عمدة المدينة حظر الإعلانات الدعائية لمونديال قطر أو السياحة القطرية. لا أعرف إن كان من المناسب تسمية لندن بأنها عاصمة الاستثمارات القطرية الخارجية. لكن هارودز أهم متاجر العالم وناطحة سحاب شارد الأعلى في أوروبا وحي ثكنة تشيلسي السكني الجميل، كلها استثمارات بالمليارات في لندن. عاصفة المونديال ستمر وعاصفة الغضب القطري من عمدة لندن ستتبدد، فهل من مصلحة قطر الدخول في مثل هذه المواجهة مع بريطانيا، البلد ذي اللسان الإعلامي والسياسي والدبلوماسي الطويل، وفي هذا التوقيت السيء الذي تحتاج فيه بريطانيا إلى كل جنيه استثمار؟

من الممكن النظر للأمر على أنه تلقين لندن وغير لندن درسا في احترام الآخرين وخصوصياتهم. السعودية مثلا، ومن خلال أوبك+، لقّنت الولايات المتحدة درسا في عدم قبول منطق الهيمنة. لكن هذا الدرس أساسه النفط، شيء تمتلكه السعودية وغيرها من دول أوبك+ تحت أرضها وفي خزاناتها الأرضية والعائمة. لو كان الدرس في إهمال رغبات، أو طلبات، الشركات البريطانية في توريدات الغاز القطري، لكانت معطيات الدرس مفهومة. لكن أن تستفز البريطانيين في موضوع الاستثمارات التي هي تحت يدهم، وعلى أرضهم، فهذه لعبة خطرة يجب عدم الانجرار إليها. انظروا الغضب البريطاني من بوتين وماذا فعل بعشرات المليارات من الاستثمارات والمال والعقارات الروسية في بريطانيا.

ثم لماذا الاستعجال؟ الغربيون انتظروا سنين طويلة لتصفية حسابهم مع حصول قطر على حق استضافة المونديال. تركوها تصرف وتتخيل المكاسب، ثم قبل أيام من الحدث، بدأ الهجوم.

لقد علمت قطر الآخرين فن الهجمات الإعلامية والسياسية. لعلها تتعلم اليوم ممن استهدفتهم في السابق فن الصبر.