صابر بليدي يكتب:

هل تبدد تطمينات الرئيس تبون المخاوف

سعى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في خطابه الأخير لتحرير كوادر الدولة على المستوى المحلي وإعطائهم الضمانات اللازمة لحمايتهم مما أسماها بـ”دولة الدسائس والمكائد”، في إشارة إلى الملاحقات الأمنية والقضائية التي تسلط على المسؤولين المحليين. لكن المخاوف تبقى قائمة لدى الكثير منهم، ما دامت دوائر القرار ليست ممركزة في مكتب واحد، فبإمكان أي جهاز أو مسؤول كبير أن يتدخل لصالح أو ضد هذا الملف أو ذاك، دون العودة إلى مصدر القرار المفترض، وذلك في حد ذاته مغامرة بالنسبة إلى أي مسؤول محلي.

وتبقى رنة الهاتف هي مصدر القلق الأول للموظفين الحكوميين في المحافظات والدوائر، لأن مصيرهم يتعلق في بعض الأحيان بمدى وكيفية تعاطيهم وتعاملهم مع الرسالة التي ترد عبر الهاتف، وقد يكون الثمن غاليا، كما حدث مع عدد من الولاة والمسؤولين المحليين الذين وجدوا أنفسهم خلف القضبان سواء بسبب ممارسات ذاتية أو ضغوطات فوقية.

ودفع جناح الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة فاتورة غالية لمسيرة سنوات من التجاذب بين أركان السلطة، بداية من سقوط الرجل إلى انهيار أركان حكمه، ومرورا بتصفية كل الرموز والوجوه السياسية والتنفيذية والمالية والإدارية المحسوبة عليه. ولم يسلم من الحملة إلا من فهم اللعبة مبكرا ودخل مخبر التلون مع التطورات، قبل أن تتحول إلى سياق عام ويصبح الوالي يفضل البقاء في مكتبه على أن يبادر في الميدان، لأن النماذج باتت ماثلة أمام عينيه ولا مجال للمغامرة.

ويبدو أن الرئيس تبون أراد أن يعطي الانطباع بأن تعطل مشروعه الانتخابي يعود إلى العراقيل المحلية التي ينفذها من عينهم من مسؤولين، وأن الخلل يكمن في المخاوف الجاثمة على صدورهم من تصفية الحسابات ومن السيناريوهات السيئة التي جعلت الولاة ورؤساء الدوائر يجثمون في مقاعدهم دون أي مبادرة بسبب خوفهم من أن تنقلب عليهم الأمور وتصبح رؤوسهم في خطر.

متى ارتبط المسؤول بتوزيع الريع كلما وقع في الفساد والمحاباة والمصالح الضيقة، ومتى تفرغ لإدارة مهام معينة وتحريك المبادرة كلما اقترب من النزاهة وابتعد عن الشكوك والاتهامات

ولذلك حاول تقديم الضمانات والتطمينات لولاة الجمهورية وحضهم على اتخاذ المبادرة، لكن بين الخطاب وبين الحقيقة بون واسع، فقد سبق للرئيس الراحل بوتفليقة أن أعلن عن منح الولاة رقم هاتفه الشخصي للاتصال به في حال أي ضغط أو تدخل غير قانوني، لكن ذلك لم ينه المخاوف المتراكمة لدى هؤلاء من أي نهاية غير سارة، ولذلك اضطر البعض لإرساء تقاليده الخاصة في شؤون التسيير المحلي، بما في ذلك الإحجام عن المبادرة وعدم اتخاذ القرار المناسب في التعاطي مع الشأن العام وانشغالات المواطنين.

والآن نفس السيناريو تقريبا يتكرر مع الرئيس عبدالمجيد تبون، فقد سحب صلاحية التحقيق الأمني وصياغة التقارير على مستوى المصالح المحلية، وجعلها حصرا للمصالح الأمنية المركزية التي تتكفل بالتحقيق في شبهات الفساد وسوء التسيير، لكن المسألة تنطوي على هدر للوقت والجهد وتعقيد للإجراءات الإدارية في التعاطي مع الحالات المفترضة، وهو ما يوحي بأن السلطة لم تعثر بعد على آليات تحرير وتفعيل المبادرة المحلية وحماية المسؤولين من الضغوطات والتدخلات.

ولعل حصر تسيير ومراقبة أداء المؤسسات والمسؤولين المحليين في أجهزة إدارية مماثلة هو تكريس للبيروقراطية، ويطرح بقوة جدوى المنظومة القائمة والعلاقات الطبيعية بين من هو معين من طرف رأس الدولة، وبين المؤسسات المنتخبة في الولايات والبلديات والتي تشكل أبرز جهاز رقابي يمثل إرادة السكان، قبل المؤسسات الرسمية الأخرى كالإدارة والأمن.. وغيرهما.

وقد تكون الصلاحيات والأدوار الكثيفة لهؤلاء المسؤولين، هي السبب الأول في الشبهات التي تطالهم، فلو كانت للمؤسسات والهيئات التي تشاركهم أو تقع في إقليمهم مهام يتولونها لخفّ الحمل عليهم، وكان بالإمكان تحريك الجبهة المحلية لتنفيذ أي مشروع بوتيرة متناسقة، وهو ما كان يستوجب على الرئيس تبون التفكير فيه، قبل أن يجعل من الولاة أباطرة في ولاياتهم.

ويعتبر ملف السكن أوضح مثال على ذلك، فقد أحجم العديد من الولاة ورؤساء الدوائر عن توزيع المساكن على أصحابها، وظل المئات منها مغلقا لسنوات، لأن هؤلاء المسؤولين لا يملكون الشجاعة السياسية والأدبية اللازمة لمواجهة الواقع، فهم يعلمون أن كل عملية توزيع للسكن تثير ضجة اجتماعية واحتجاجات في الشارع، ولذلك يلجأون إلى الحلول السهلة، وهي التماطل في توزيعها تفاديا للقلاقل المحتملة، وهو ما عطل جهود الحكومة في توفير السكن لمواطنيها.

ولو سادت الشفافية والنزاهة في إعداد لوائح المستفيدين من الريع السكني، لتمكن الولاة ورؤساء الدوائر من توزيع السكن الجاهز في وقته وقدموا خدمة للحكومة ولبرنامج الرئيس نفسه، وهو ما يوحي بأن المسؤول متى ارتبط بتوزيع الريع كلما وقع في الفساد والمحاباة والمصالح الضيقة، ومتى تفرغ لإدارة مهام معينة وتحريك المبادرة كلما اقترب من النزاهة وابتعد عن الشكوك والاتهامات، وهي قاعدة لا زالت غائبة في إدارة المنظومة التنفيذية من رأسها إلى أخمص قدميها.