صابر بليدي يكتب:

مسار الانحراف يضع الأحزاب الجزائرية على حافة النهاية

لندن

دخلت الأحزاب السياسية الجزائرية مرحلة انحدار غير مسبوق، فبعدما تحالف أداؤها الرديء مع نية السلطة في الاستغناء عن قواعد اللعبة التقليدية، أصبح وجودها من عدمه سيان. ولولا أن الديكور السياسي يتطلب وجودها في المؤسسات المنتخبة، لكان إعلان نهايتها أمرا مريحا لها وللمجتمع بشكل عام.

وإلى سنوات قليلة فقط تعالت أصوات سياسية في البلاد، تدعو إلى ضرورة خروج قادة الأحزاب في الساحات العمومية لتمزيق أوراق اعتمادها الرسمي أمام الرأي العام، كإشارة رمزية إلى تراجع دورها وعدم حاجة المجتمع إليها، في ظل اختلال المفاهيم السياسية في البلاد، وإمعان السلطة في تقزيمها وتحويلها إلى مجرد قطع ديكورية في المشهد العام.

والأمر لم يتوقف هنا، فقد فاقمت توجهات السلطة الجديدة بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون من تقزيم وجودها حتى باتت المعارضة والموالاة في سلة واحدة، فالأولى تحسب أنفاسها تحت شدة الخنق، والثانية مستمرة في عرض خدماتها دون أن يطلب منها ذلك. ولعل صعود الجيش والمجتمع المدني كوعاء سياسي واجتماعي للسلطة خلط أوراق الطبقة السياسية، فزهدت في كل شيء بما في ذلك الحكومة ومختلف المؤسسات حفاظا على استمرارها.

أزمة الأحزاب السياسية هي نتاج طبيعي لتراكم مجموعة من الممارسات الخاطئة. فمنذ أن اختارت أغلبيتها ركوب قارب السلطة في تسعينات القرن الماضي، لم يجد الشارع الجزائري قوى تحقق التوازن السياسي، وجاء سجن عدد من قادة الأحزاب بداية من عام 2019 بتهم الفساد ليدق آخر إسفين في نعش المؤسسة الحزبية بشكل عام.

وأشارت إفرازات الانتخابات التشريعية والمحلية الأخيرة إلى عدة توجهات كرّست النهاية العملية للمؤسسة الحزبية في البلاد، فلم يعد فوزها أو خسارتها في الاستحقاق معيارا لقياس ثقل وقوة الحزب، لأن الغياب أو التغييب المتعمّد عن الحكومة والمؤسسات الرسمية، ساوى بين حزب جبهة التحرير الوطني الحائز على الأغلبية وبين جبهة الجزائر الجديدة التي حصلت على مقعد وحيد في البرلمان.

وبات الحضور اللافت للجيش في مختلف الملفات، وفرض المجتمع المدني كشريك للمؤسسات الرسمية والمنتخبة، منافسا قويا للأحزاب بغض النظر عن شرعية المنافسة ونزاهتها، وهو ربما ما أجبر الطبقة السياسية على الانطواء في انتظار مراجعة للأوراق قبل أن يتحول الأمر إلى مأزق جديد، لأنها تدرك أن الحزب في النهاية هو مؤسسة سياسية لا يمكن استخلافه أو الاستغناء عنه.

ورغم أنها لم تستقطب في أحسن أحوالها أكثر من تسعة ملايين جزائري من مجموع 24 مليون جزائري مسجلين في لوائح الانتخاب، وسجلت تراجعا غير مسبوق في تاريخها السياسي، إلا أن الأحزاب الجزائرية وصلت إلى منعرج حاسم، فهي مخيّرة بين الضغط على السلطة لمراجعة الأولويات، أو أن تعلن عن اندثارها تماما بعدما اندثرت عمليا منذ سنوات.

أي مصير أكثر مأساوية سيضطر الأحزاب السياسية إلى البكاء على ماضيها القريب عندما اختصرت نفسها في شخص رئيس جمهورية، يوم رضت لنفسها أن تكون داعما له بدلا من أن تكون منافسا

في الكثير من الأنظمة السياسية تمارس الديمقراطيات الشكلية والواجهات المفبركة، إلا أن الحالة الجزائرية تستدعي التوقف الجاد عندها، فإذا كان السائد أن السلطات الحاكمة هي التي تضيق على الأحزاب أو تحظرها أو تحلها، فإن أحزاب الجزائر تقترب من نهاية طبيعية دون مؤثرات خارجية واضحة، ومن السهل عدم تحميل السلطة أي مسؤولية في ذلك.

واللافت في المسألة هو الصمت المطبق الذي يلازم النخب السياسية في البلاد، فأغلب الطبقة السياسية يضمر ما لا يظهر ولا يملك الجرأة على إثارة قضية الأزمة البنيوية التي باتت تهدد المؤسسات السياسية بشكل عام، فالمصدر المفترض للأفكار والتصورات والبرامج صارت وفق هذا المنطق، مجرد أدوات تدعم السلطة للبقاء في الحكم بدلا من الدخول معها في منافسة عليها.

وهو ما يسمح باستمرار مخطط التصحير السياسي للبلاد من النخب والمؤسسات السياسية، فقد عمد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة إلى إفراغ البلاد من كل ما هو منافس سياسي كحزب أو نقابة أو جمعية واستفرد بالسلطة لنفسه ولمحيطه، ونفس المخطط يستمر الآن بدخول لاعبين جدد لهم من المشروعية لدى قطاع من الجزائريين، حيث يعتبر الجيش كافيا لأداء دور شامل في الدولة، وأن المجتمع المدني أكثر نظافة من الطبقة السياسية.

وأي مصير أكثر مأساوية سيضطر الأحزاب السياسية إلى البكاء على ماضيها القريب عندما اختصرت نفسها في شخص رئيس جمهورية، يوم رضت لنفسها أن تكون داعما له بدلا من أن تكون منافسا، وحينما استشرى فيها الفساد كباقي المؤسسات الأخرى، صارت المقاعد تباع وتشترى بمبالغ باهظة يفوز بها من امتلك الثمن.

وأن تقبع في السجن شخصيات شغلت منصب أمين عام في حزب الأغلبية، مثل جمال ولد عباس، محمد جميعي، أحمد أويحيى ومعهم بهاء الدين طليبة وآخرين، بتهم الفساد السياسي والمالي، ليعلن بذلك الطلاق البائن بينها وبين الشارع الجزائري، وهو ما شجع السلطة الجديدة على الإمعان في تجاهلها والاستغناء عنها بشكل لافت، ولو أن السلطة نفسها انحرفت أيضا عن المنطق السياسي باعتمادها على أذرع جديدة لا يمكن أن تؤدي دور الآخرين.

وكان حريّا بها أن تباشر تغييرا سياسيا يفسح المجال أمام ظهور قوى سياسية تمثيلية من رحم المجتمع، لتكون هي البديل الطبيعي للطبقة السياسية التقليدية المهترئة، بدلا من الاستعانة بمؤسسات رسمية وأهلية لا تملك شرعية التعدد السياسي والأيديولوجي، وليس بإمكانها تعبئة الشارع في خط السلطة الواحد والوحيد.

لا يزال الجزائريون يتذكرون الكلمة الشهيرة والجريئة للمناضل والأمين العام لجبهة التحرير الوطني الراحل عبدالحميد مهري عندما خاطب الرئيس السابق اليامين زروال في ذروة أزمة العشرية الدموية قائلا له إن “علاقة جبهة التحرير الوطني بالسلطة علاقة دستورية بين رئيس دولة وحزب سياسي، ولست ملزما بأن أضع حزبي كوعاء سياسي واجتماعي لمرشح اختار أن يكون مستقلا”، وهي الرسالة التي اختصرت أصول العمل السياسي ومعاييره قبل أن ينحدر ويدفع بأصحابه إلى القاع.