يوسف الديني يكتب:
زلزال تونس... هل بلغت القلوب الحناجر؟
«زلزال تونسي»... هذا ما يمكن قوله مع الخطوات الشجاعة والمستحقة التي قام بها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد بعد أن بلغت الحالة التونسية مرحلة حرجة من الاستمرار في ذهنية «الثورة» وشعاراتها غير الواقعية ضد حتمية منطق الدولة.
وبحسب تعليل وتسبيب القرار - الزلزال التونسي فإن الإجراءات جاءت بسبب حالة الخطر الداهم التي تهدد أمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه بحسب وصف الرئاسة «السير العادي لدواليب الدولة»، وأن القرار تم بعد استشارة رئيس الحكومة، ورئيس مجلس نواب الشعب، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية.
بالأمس منع الجيش التونسي رئيس البرلمان المقال راشد الغنوشي وعدداً من نواب حركة «النهضة» و«ائتلاف الكرامة»، من الدخول إلى مقر البرلمان بعد قرار الرئيس تجميد أعماله واختصاصاته، وحين جادله الغنوشي كما في الفيديو الذي انتشر كان رد الجندي حاسماً وفارقاً ومؤسساً لفضيلة الاستقرار التي تحتاجها تونس: «نحن أقسمنا على الدفاع عن الوطن».
اللجوء إلى الشعارات والاستقواء بحالة الثورة كانا الخيار الأضعف للغنوشي وأنصاره وأتباعه، حيث قاموا بوصف حركة التصحيح هذه بالانقلاب، وهو ما سيضاعف من التعجيل بانهيار رصيده في المجتمع التونسي الذي عبّر عن ذلك بأشكال مختلفة، كان منها قيام محتجين غاضبين برشق موكبه بالحجارة، وهو ما يعكس مدى حالة الغليان في الحالة التونسية، وأن إجراءات رئيس الجمهورية هي قارب إنقاذ لتونس بعد أن بلغت القلوب الحناجر، وهي تعيد إلى الأذهان حالة مشابهة لكل دول ما سمّي الربيع العربي في التخلص من تبعاته واستعادة منطق الدولة بعد أن سيطرت لعبة الاستقطابات الضيقة على حساب مفهوم الوطن، والتي قادها الإسلام السياسي مدفوعاً بتحالفات خارجية لابتلاع الحالة السياسية للبلاد، لكن الوضع في تونس أكثر حرجاً بسبب دخول حالة وضعية «التنظيمات العنفية» المسلحة وتصدير المقاتلين لـ«القاعدة» و«داعش»، حيث بلغت تونس في كل التقارير الدولية نسبة إلى عدد السكان، أكثر الدول تصديراً للكوادر الإرهابية وحضوراً في ظاهرة المقاتلين الأجانب في مناطق التوتر، خصوصاً بعد حالة العفو عن السجناء بعد الثورة وما تلاها من سيطرة مجتمعية للتطرف بعد أن دخل عدد من الدول المستثمرة في الإسلام السياسي في تمويل حضورها السياسي عبر دعم هذه الأجنحة الداخلية، التي تحولت إلى مكاتب ووكالات خاضعة لآيديولوجيات أممية عابرة للقارات سرعان ما تجد طريقها للشارع التونسي عبر آلة دعاية ضخمة في ظل غفلة وسذاجة بعض أصوات الأحزاب المدنية، خصوصاً من اليسار المناهض عادة لمنطق الدولة ولو بالتحالف مع التطرف، ويمكن قراءة تلك الأرقام المفزعة في ورقة بحثية مفصلة قدمها الخبير في الشأن الجهادي هارون زيلين، وهو زميل في «ريتشارد بورو» ومعهد واشنطن، حيث قدم كشف حساب لعشر سنوات من قرار العفو عن السجناء وكيف أدى ذلك إلى صعود وتضخم «أنصار الشريعة» في تونس وتغلغل خطاب «داعش» في المناطق الطرفية، وتلك قصة أخرى تستحق وقفة أخرى.
وفي التفاصيل؛ فإن الصراع السياسي في تونس كان في البداية حرباً على امتلاك الإعلام والفضاء العمومي، وهو ما شكّل حرب هويات وليس تجاذباً سياسياً، من هنا جاءت فكرة التطهير التي قادتها حركة «النهضة».
من الأوهام التي تتم إشاعتها الاعتقاد بأفضلية مخرجات أي مرحلة لتلك الاحتجاجات، أو ما يعرف بمخرجات «الثورة» على الوضع السابق في البلدان العربية، كما رأينا ونرى من يتحدث عن لحظة ما سمّي الربيع العربي، وهي لحظة لم تقرأ بشكل جيد بعد - بكل كوارثه وتناقضاته وفوضويته، مفضلاً أي استقرار سياسي أو اقتصادي لم يتأثر برياح «الربيع»، ويمكن العودة إلى عشرات التقارير الغربية عن الحالة التونسية وبالأرقام قبل الثورة وبعدها فيما يخص الاقتصاد والمؤسسات لمعرفة حجم الضرر الذي طال منطق الدولة، وهذا لا يعني تفضيلاً للحالة السابقة لكنه بالضرورة نقد للبدائل الشعاراتية التي جعلت حشود الثائرين يتحسرون على الوضع السابق. بمعنى آخر وبلغة سياسية أن اختطاف الإسلام السياسي وتحالفه مع اليسار وارتهانه إلى دول خارجية على حساب سيادة الدولة، أعاد موضعة مسألة السلطوية والأمن في كثير من البلدان، التي كانت تتذرع بالتعددية لتمرير أجندات خطرة أدت إلى الارتهان للفوضى وانحسار مفهوم الدولة المستقلة.
والحال أنه آن الأوان اليوم إلى رفع الصوت بضرورة مراجعة نقدية شاملة لحالة «الربيع العربي» المزعوم والخروج من سلطة سرديته الحالمة، وقراءة واقعية للانكسارات العميقة التي أحدثها في بنيان الدولة ومؤسساتها، كما هو الحال مراجعة لمفهوم الديمقراطية الشكلانية «الصندوقراطية» اللعبة الأثيرة لدى الإسلام السياسي وتحالفاته واستثمارته في الحشود على أثر خيباتها في الآونة الأخيرة ليس في تونس فقط بل حتى في بلدان تتغنى بالشعارات على حساب الانهيار الكبير المحدق بها في ظل المكابرة التي وصفها أفلاطون، أحد أكثر نقاد شكلانية الديمقراطية، بـ«ديكتاتورية الحشود»، التي لم تعد تقنع بناخبيها في تلبية مطالبهم غير السياسية، وتحديداً الحد الأدنى من عيش الرفاه والاستقرار ووفرة الفرص الوظيفية بعيداً عن جذر الثقافة الديمقراطية، ونسغ فلسفتها، وهو حرية الاختيار التي تحولت في التجربة العربية التمثيل الأسوأ للديمقراطية الشكلانية إلى «غزوة الصناديق» على يد الإسلام السياسي، حيث نتذكر كيف كانت الحشود أشبه بدروع تترس تشبه مع الفارق تلك التي أقامها الداعشيون و«القاعدة» وأخواتها في التحصّن ضد إعادة الاستقرار لمناطق التوتر في كلتا الحالتين كانت الحشود والجماهير مجرد أرقام استقواء ضد التغيير ومنطق الدولة.
الأزمات الاقتصادية ستضيف عمقاً جديداً لمشكلات المنطقة، طبعاً، بغض النظر عن ظلال انهيار أسعار النفط الذي يخضع لمقاربات متباينة جداً، سواء في الدوافع وعلاقتها بالأوضاع السياسية... أزمة تعاظم وصعود طبقة الشباب وتحولهم إلى قوة ضاغطة وكتلة اجتماعية هائلة بلا محطات استيعاب، ما يجعلهم في ظل «فوضى المحتوى» فرائس سهلة لتنظيمات متطرفة سياسية أو حتى على مستوى العمل المسلح، وهو ما يشكل كابوساً للمراقبين في ظل غياب استراتيجية شاملة لمعالجة ملف التحديات الأمنية ذات البعد الثقافي والفكري والسياسي، التي تحتاج إلى آليات عمل وأدوات وخطاب ومنتجات تختلف عن المواجهات الأمنية.