يوسف الديني يكتب:

«رؤية 2030» والحج: أنسنة الشعائر الدينية

كل عام والعالم أجمع بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك «العيد الأكبر» الذي يأتي في هذه السنة مختلفاً عن بقية الأعوام؛ إذ خفتت كل موجات الاستهداف لقبلة المسلمين المملكة العربية السعودية التي شرفها الله بخدمة حجاج بيته الحرام، وكانت منذ لحظة التأسيس على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز تضع سيادة شعيرة الحج وتحييدها عن أي تحيّزات دينية أو طائفية أو سياسية أو استثمار فوق كل اعتبار، ومع ذلك كان استمرار أداء شعيرة الحج وفقاً للإجراءات الاحترازية تحدياً كبيراً حققت فيه الدولة بتضافر كل مؤسساتها نجاحات كبرى. واللافت أن موجة الاستهداف منذ بدايات الجائحة التي خفتت اليوم لتحولات في الدوافع الانتهازية والتحالفات والاستثمارات في سوق السياسة السوداء، لم تزد العمل الدؤوب الذي تشرف عليه القيادة السياسية من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمين مهندس رؤية 2030 عن تقديم المزيد من المشاريع والمبادرات التطويرية لموسم الحج في سبيل أنسنة الشعائر الدينية وخدمات الحرمين الشريفين التي لا يمكن أن تخطئها العين في موسم الحج أو بزيارة المدينة المنورة والمشاريع العملاقة لإضفاء مفهوم «التجربة الشمولية» وفق أعلى المعايير الدولية المعروفة في قطاع الخدمات والتنظيم.
الحج في هذا العام استفاد من تجربة النجاح في الأعوام السابقة، وأضاف إليها المزيد من المبادرات، وكان منها ما عمدت إليه الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية في السعودية، للمرة الأولى، من تفعيل المنصة الجيومكانية خلال موسم الحج الحالي 1442هـ، حيث تم توظيف الفتوحات الكبرى في عالم التقنية وإدارة البيانات ورقمنة الخدمات، مما ساهم في توفير البيانات الجيومكانية التي لعبت دوراً عظيماً في تسهيل مرونة تنقل الحجاج ودعم اتخاذ القرارات، والتخطيط والاستجابة السريعة في خدمة القطاعات الحكومية المساندة، والخدمة تقوم على تسهيل الاطلاع والتمكين من الاستفادة من البيانات الجيومكانية الوطنية والمتصلة بالتخطيط والتطوير، والبيئة الزراعية، والنقل، والأمن والسلامة، والخدمات الاجتماعية، والصحية، والتعليمية، والثقافية، والتجارية؛ بيانات تفاعلية وبيانات إحصائية، والقدرة على الربط مع هذه المنصة من خلال البرمجيات المختلفة.
اليوم، السعودية والسعوديون يشعرون بالفخر وهم يقدمون أنفسهم للعالم ككتاب مفتوح وقلوب مطمئنة لفضيلة الاستقرار والإيمان بالمستقبل بعيداً عن أي ادعاءات أو منة، علاوة على الدخول في مهاترات ملف «تسييس الحج» الذي عاد دعاة الفتنة فيه من منظمات ودول وشخصيات اعتبارية مندحرين وهم يشاهدون الإصرار السعودي على تقديم خدمة حجاج بيت الله الحرام كأولوية سيادية ووطنية لا يمكن الحياد عنها.
النجاحات العريضة لإدارة موسم الحج في كل سنة كانت الرد السعودي العملي على كل التخرصات حول ملف تسييس الحج والمواسم الدينية الذي بات من الملفات الموسمية التي يعاد تدويرها في المسلسل الرخيص لاستهداف المملكة، واللعب على مسألة السيادة والأوزان السياسية الكبرى لدولة لا يمكن استهدافها إلا من خلال التشغيب، ومحاولة الانتقاص من صدارتها في قيادة العالم الإسلامي.
لم يعد المسلسل الرخيص الذي كانت تديره بعض الدول وفي مقدمتها نظام ملالي طهران مثيراً حتى للتداول من قبل وكالات الأخبار، وهو ذات الفشل الذي يطال آخرين حاولوا تسييس المواسم الدينية في سنوات مضت بشكل شرس في محاولة لاختطاف قيادة العالم السني الذي تتربع عليه المملكة منذ تأسيسها، بسبب شرف خدمة الحجيج، والجغرافيا السياسية، والتاريخ المشرف منذ لحظة المؤسس الذي رفض تسييس الحج مبكراً مع أولى المحاولات من بعض التنظيمات المؤدلجة.
الرؤية السعودية في إدارة المواسم الدينية هي جزء من رؤية شمولية تحديثية تطمح إلى الاستثمار في المستقبل لا تقف عن جانب أو ملف بعينه، وهذا ما بدا واضحاً حتى في تدشين عدد من التحولات والقرارات التي تخص أنسنة الحالة الدينية من اختطاف التيارات المؤدلجة والمتطرفة.
ويمكن القول إن أهم ما في الرؤية رغم كل التحديات التي تسعى جاهدة في تخطّيها وفق المراقبة الدائمة والتصحيح، أنها تجاوزت الفصل الذي كان سائداً في العديد من تجارب البلدان العربية منذ لحظة النهضة حين كانت تفصل بين التنمية الاقتصادية ودوافعها الفكرية وقاعدتها السياسية والثقافية؛ في الرؤية الجديدة التي أطلقت عدداً من المشاريع التنموية التي لم تنبت كطروحات مالية أو تحليلات اقتصادية مفرغة من سياقاتها الفكرية، بل تمت إضافة «المعنى» لها في سابقة سعودية، حيث كانت تعتمد الخطط التنموية على التمحور حول الاقتصاد وتسريع عجلته، مع البقاء في السياق التحديثي في إطاره المحافظ، وحده الأدنى الذي لم يعد صالحاً للتكرار في ظل المعطيات الجديدة؛ من أجيال شابة وطموحات كبيرة، واقتصاد السوق العالمية، ودخول مجموعات كبيرة من الشباب والفتيات من المواطنين إلى سوق العمل، قادمين من تجارب ابتعاث، ومسلحين بأحدث ما وصلت إليه الجامعات العالمية من معارف وتطبيقات حديثة.
الدنيا تراقب كل عام موسم الحج الحدث السنوي الأهم في العالم الإسلامي بأسره، وبات أكثر اهتماماً في قراءة التجربة السعودية الناجحة في التعامل مع جائحة «كورونا» وفق مصلحة العباد والبلاد من دون تحيّز أو مجاملة، لكنّ السعوديين ومن يقرأ أو يتابع تحولات الداخل السعودي الذي تحول إلى ورشة كبرى تطمح إلى مستقبل أفضل... كل هؤلاء على ثقة كاملة بأن شيئاً ما لن يتغير لأن شرف خدمة الحجيج جزء من الهوية الدينية والسياسية لهذه البلاد، ومنذ لحظة الجائحة والقرارات السياسية السيادية فيما يخص الحج هي حصيلة قراءة حصيفة للواقع والمصلحة ضمن الاستثمار في الإنسان والعمران والمحافظة على ثوابت الإيمان، ورفد ذلك كله برفع مستوى التنظيم إلى الشكل الذي رآه الجميع على محطات التلفزة، من دون مواربة أو إخفاء في عالم الميديا والشائعات والتصيد في مياه التسييس العكرة.