إبراهيم الزبيدي يكتب:

الخاسرون من المصالحة التركية - القطرية مع مصر

منذ يوليو 2013، يوم نزول الملايين من المصريين إلى الشارع لتلبية نداء الجيش، وحتى قبل أسابيع، كان النظام الذي أقامه الشعب المصري وجيشه على أنقاض حكم الإخوان المسلمين، في الأدبيات التركية والقطرية والإخوانية، نظاما دكتاتوريا، وعبدالفتاح السيسي قائدَ انقلابٍ عسكري لم يحفظ جميل الرئيس الراحل محمد مرسي الذي قرّبه وعيّنه وزير دفاع.

وعلى مدى ثماني سنوات كانت خزائن قطر وتركيا مفتوحة على مصراعيها للإخوان المسلمين، ولأيّ مُعادٍ آخر لمصر ورئيسها، يَغرفون منها ما يشاؤون، فيطلقون الفضائيات والإذاعات، ويُصدِرون الصحف ووكالات الأنباء، ويُنشئون المواقع على الإنترنت، ويؤسسون الشركات التجارية ومكاتب توظيف الأموال التي تتولى تمويل الخلايا (المجاهدة)، ويشترون أطنان القنابل والمدافع والمفخخات ويُهرّبونها إلى داخل مصر لقتل الضباط والجنود ورجال الشرطة المصريين انتقاما من السيسي، وسعيا لخلخلة الأمن القومي الداخلي، ولنشر النقمة الشعبية الضرورية لقلب النظام.

ثم لم تكتفِ قطر وتركيا بالتصفيق والتهليل لحرب العصابات التي كان يشنها الإخوان المسلمون في سيناء، بل تسللتا إلى ليبيا بالسلاح والأموال والخبراء والمرتزقة لمحاصرة مصر، تمهيدا لإرجاع السلطة لورثة الإمام حسن البنّا، من جديد.

إلى الحد الذي أصبحت معه إسطنبول والدوحة غرفتيْ عملياتٍ لجماعة الإخوان المسلمين للعمل العلني والسري ضد نظام السيسي، كما استضافتا شخصياتٍ متورطة، بشكل مباشر في جرائم إرهابية في مصر ومدرجة على قوائم الإرهاب.

وفي ثماني سنوات لم تبق تهمة إلا وأطلقها الإعلام التركي والقطري بكل الوسائل والأساليب على السيسي شخصيا، وعلى نظامه معه.

وفي كل يوم كان الإخوانُ المسلمون المقيمون في إسطنبول والدوحة ينشرون أخبار نجاحات خلاياهم المسلحة، وهزائم الجيش المصري، ويبشّرون باقترابهم من النصر المبين.

ثم فجأة أفاق الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على حقيقة أن النظام المصري لم يكن انقلابا غادرا على الحكم الشرعي (الإخواني) المنتخب، وأن السيسي ليس دكتاتورا وخارجا على القانون الدولي والإنساني، وأن العلاقة معه ضرورية لخير الشعبين ولأمن المنطقة واستقرارها.

وعلى خطٍ موازٍ شهدت العلاقة بين مصر وقطر، وهي الحليف الدائم لتركيا، تهدئة كبيرة أعقبها استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، واتصل الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر بالرئيس المصري مهنئا بقدوم شهر رمضان المبارك.

ثم أعلن وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، أن “مصر من الدول الكبرى في المنطقة، وتلعب دورا قياديا في الملفات الإقليمية، مشددا على أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يمثل الشرعية المنتخَبة في مصر”.

إذن فالقصص التي ظلت تُدبجها قناة الجزيرة من الدوحة، وفضائيات (وطن) و(الشروق) و(مكملين) من إسطنبول ضد مصر وحكومتها منذ 30 يونيو 2013، لم تكن صادقة ولا عادلة ولا نزيهة، والأرواح البريئة التي أزهقت، والمنازل التي دمّرت، والمصالح التي خرّبت، والأموال التي أهدرت في سيناء والقاهرة والمدن المصرية الأخرى، طيلة الثماني سنوات الماضية، ذهبت ثمنا لحماقات وإرادات وسياسات غير نزيهة، وأحلام خائبة لا تتحقق.

والذي ينبغي قوله هنا هو أن هذه المفاجآت ليست جديدة في التاريخ. فالحكومات تغير مواقفها وسياساتها تبعا لمصالحها المتغيرة.

ولا تهتم هذه المقالة بتفاصيل المصالحة التركية – القطرية مع مصر السيسي ونتائجها، بقدر البحث عن الخاسرين الحقيقيين الوحيدين في مثل هذه المصالحات.

فالذين يُسلمون أنفسهم بالكامل أدواتٍ تستخدمها الحكومات في معاركها المصلحية تلك حين تنتهي المعارك وتنتفي الحاجة إليهم يجدون أنفسهم خارجين من اللعبة بخُفّيْ حُنين، لا مع هذا ولا مع ذاك.

وفي هذا المفصل من العلاقات الإقليمية الجديدة هناك خاسران. أولهما الإخوان المسلمون، فكرا وتنظيما سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وثانيهما أميركا الأوبامية التي راهنت على الإخوان المسلمين ودعمتهم بلا حدود.

ومن حق الإخوان المسلمين، اليوم، أن يقلقوا على المصير، تحسّبا لطردهم تنفيذا لشروط الحكومة المصرية، وذلك لأن عثورهم على ملاجئ بديلة، مع وجود مطلوبين منهم على قوائم الإنتربول، أمرٌ في غاية الصعوبة.

وفي ضوء الواقع الجديد، أصبحت حركة الإخوان المسلمين من الماضي. فبعد فقدانها الأحضانَ التركية والقطرية الدافئة خسرت أميركا بايدن (الأوبامية) التي كان المؤمل أن تعاود المراهنة على الإسلام المتطرف، استطرادا واستدراكا لأخطاء باراك أوباما وهيلاري كلينتون وبايدن السابقة.

لقد أخطأ القادة الإخوانيون الكبار بحق الحركة وأنفسهم وأسَرِهم حين لم يحسبوا حساب الزمن، فأصبحوا أتراكا أكثر من أردوغان، وقطريين أكثر من تميم، متوهمين بأنَّ العداوة التركية – القطرية لمصر مبدئية وعقائدية ثابتة وباقية، فبالغوا في العداوة لبلادهم، حتى لم يبقَ للصلح بينهم وبين شعبهم، مطرح.

لقد خسروا الجنّتين. فلا هم ربحوا الإقامة الدائمة في رحاب حلفائهم الأتراك والقطريين برعاية أميركية جديدة، ولا هم عادوا إلى أهلهم سالمين.