شكري باعلي يكتب لـ(اليوم الثامن):

"نظرية الحصان الميت.. كيف تُدار الأزمة اليمنية برُكوب الوهم؟"

رائع، بما أن النشر سيكون ضمن مؤسسة "اليوم الثامن للإعلام والدراسات"، فسأضبط النص ليناسب سياستها التحريرية:
لغة عربية فصيحة، أسلوب تحليلي عميق، ابتعاد عن التهويل أو التمجيد، التزام بالدقة والرصانة مع نَفَس صحفي–بحثي يعكس الشعار المهني للمؤسسة: "دقة في الرصد، عمق في التحليلتقول النظرية: "إذا وجدت أنك تركب حصانًا ميتًا، فإن أفضل ما يمكنك فعله هو أن تترجل عنه". لكن في الحالة اليمنية، ومنذ انطلاق عملية "عاصفة الحزم" في مارس 2015، بدت الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف، ومعها أطراف يمنية تقليدية، وقد اختارت – عن وعي أو عن عجز – الإصرار على البقاء فوق حصان ميّت، دون أدنى رغبة أو استعداد للنزول عنه، أو حتى للاعتراف بأنه قد مات.

المقصود بهذا "الحصان الميت" هو مشروع "الوحدة اليمنية"، الذي تحوّل منذ حرب صيف 1994 إلى كيان مشلول فاقد للشرعية الشعبية والسياسية. فبعد تلك الحرب، لم يعد الجنوب شريكًا في دولة الوحدة، بل تحوّل إلى طرف مهزوم خضع بالقوة السياسية والعسكرية، وقُضي عمليًا على حلم الدولة المشتركة. ثم جاءت أحداث 2015، لتشكل نقطة فاصلة، حين تمكن الجنوبيون من استعادة زمام المبادرة على أرضهم، وفرضوا معادلة سياسية جديدة، تستند إلى إرادتهم الشعبية ومشروعهم الوطني الذي لم يُدفن قط، وإنما ظلّ حياً تحت الرماد.

لكن، وبدلاً من الاعتراف بهذه التحولات الجذرية، سعت القوى الراعية للملف اليمني إلى إعادة إنتاج النظام القديم بأدوات جديدة، من خلال محاولات شكلية ومتكررة للترقيع المؤسسي، وتجميل السطح دون معالجة جوهر الأزمة. فتم تغيير الحكومات المتعاقبة، بدءًا بخالد بحاح ومرورًا بأحمد عبيد بن دغر ثم معين عبدالملك وأخيرًا أحمد عوض بن مبارك، دون أن يصحب ذلك أي تحوّل في البنية العميقة للسلطة، أو مراجعة لمسار "الشرعية" ومشروعها المتآكل.

وفي أبريل 2022، تم الإعلان عن تشكيل "مجلس قيادة رئاسي" باعتباره تحولًا نوعيًا، لكنه لم يكن إلا استنساخًا لنفس المنظومة المهترئة، مع إدخال تعديلات في الواجهة السياسية لا في مضمون الإدارة أو اتجاه الحل. وترافق ذلك مع خطوات لإعادة هيكلة مؤسسات "الشرعية" بما يخدم مصالح مراكز نفوذ تقليدية، دون مراعاة لواقع الجنوب، أو احترام لحجم التضحيات السياسية والعسكرية التي قدّمها منذ 2015، أو حتى إشراكه كطرف أصيل في أي عملية بناء سياسي مستقبلي.

الأكثر من ذلك، عادت بعض القوى للترويج لصيغة "الدولة الاتحادية" من ستة أقاليم، كأنها الخلاص الممكن، متجاهلة أن هذه الصيغة لم تعد تجد قبولاً لا في الشمال ولا في الجنوب، وأنها أُنتجت في سياق تفاوضي سابق، ولم تُبْنَ على قاعدة توافق وطني راسخ أو إرادة شعبية حقيقية. إنها محاولة أخرى لإعادة تدوير مخرجات نظام لم يعد له وجود فعلي، ولم تعد له أدوات فاعلة على الأرض.

وفي ظل هذا الإصرار على إنعاش المشروع الميت، واجه المجلس الانتقالي الجنوبي – بصفته الممثل السياسي الأبرز للقضية الجنوبية – سلسلة من محاولات الاحتواء والتطويق، تارة بالضغط العسكري، وتارة بالإقصاء السياسي، وتارة ثالثة من خلال محاولات تفكيك حاضنته المجتمعية، أو تحجيم حضوره في مسارات التفاوض. ورغم كل ذلك، حافظ الجنوب على قدر ملحوظ من الاستقرار السياسي والأمني، وواصل بناء مؤسساته بهدوء، مستندًا إلى رؤية واضحة تقوم على استعادة الدولة وهويتها ما قبل عام 1990، بشكل سلمي ومشروع.

المفارقة أن ما يعيق الوصول إلى هذا الحل المنطقي لا يتمثل فقط في ممانعة الأطراف الشمالية، بل أيضًا في مواقف بعض القوى الإقليمية التي تخشى من تحوّل الجنوب المستقل إلى فاعل إقليمي لا يخضع لإملاءاتها. هذه المخاوف الجيوسياسية تدفعها إلى تبنّي سياسات تُبقي الجنوب في حالة "لا حل ولا دولة"، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار في اليمن والمنطقة.

ما يجري اليوم في إدارة الملف اليمني لا يمكن وصفه فقط بـ"الإخفاق"، بل يتعدى ذلك إلى كونه تعطيلًا ممنهجًا للحل، وإطالة لعمر أزمة لم تعد قابلة للتجميل أو التسويف. فمع مرور تسع سنوات على بداية الحرب، لم يعد الوقت يسمح بتجريب نفس الوصفات القديمة، ولا يمكن تبرير التمسك بصيغة الوحدة اليمنية باعتبارها "ثابتًا وطنيًا" في الوقت الذي يتآكل فيه الواقع ويتفكك المجتمع.

الحقيقة كما هي: الجنوب اليوم يمتلك مشروعه، ومؤسساته، وقاعدته الشعبية، وتاريخه السياسي الذي يستند إليه. أما مشروع "الوحدة اليمنية"، فلم يعد سوى وهم سياسي ميت، لا حياة فيه ولا قدرة له على إنتاج الاستقرار أو تحقيق التوافق.

وختامًا، فإن الإصرار على ركوب هذا "الحصان الميت" ليس خيارًا سياسيًا فاشلًا فقط، بل موقف أخلاقي معطوب، يدفع ثمنه الشعب كل يوم. لا بد أن تملك الأطراف الإقليمية والدولية الشجاعة لتسمية الأشياء بمسمياتها، ومغادرة دوائر الإنكار، وفتح الطريق أمام الحل الجذري العادل الذي انتظره الجنوب طويلًا. لأن كل محاولة لتجاهل هذه الحقيقة ليست سوى خطوة إضافية في طريق الدوران العبثي... على سرج حصان ميت.